حوارية السرد في الرواية النسوية الجزائرية رواية (عرش معشق) لربيعة جلطي نموذجا

ملخـص:

يهدف هذا البحث إلى الكشف عن تجليات آليات الحوارية في رواية (عرش معشق) للكاتبة الجزائرية “ربيعة جلطي”، ومنه انطلقت الدراسة من أن التعددية اللغوية هي السمة البارزة في هذه الرواية، والدالة على انتمائها للنموذج النصي الحداثي، ومن هنا تم وضع خطة مرتسمة جاء مستهلها لتبيان: خصوصية الكتابة في المتن الروائي وعلامات النسوية فيه، ثم تلاه البحث في صورة لغة الخطاب الروائي من خلال: التهجين / الأسلبة / الحوار الحواري. وخلص البحث إلى مجموعة من النتائج من أهمها أن الكاتبة وظفت آليات الحوارية كما جاء بها “ميخائيل باختين”، وقد أعانها هذا الانفتاح الحواري في التعبير عن تمزق الواقع وتشتته، و به خرجت عن قواعد الكتابة التقليدية التي طالما ميزت الرواية النسوية الجزائرية، و كذا سمح لها بولوج عوالم روائية ـ الطابوهات ـ كانت محظورة عليها من قبل العرف الاجتماعي، و بهذا تكون قد كسرت قواعد الكتابة الذكورية أيضا.

Abstract:

This research aims to detect the manifestation of the conversational mechanisms in the novel of (Arch Moachak) for the Algerian writer ; Rabia Djelti.The study proceeded from the fact that multilingualism is the outstanding of this novel and the function on its belonging of the text from.This is where a plan was drawn up; its inception came to indicate the specificity of writing in the narrative board and feminist signs in the text.Followed by a research in the form of narrative speech language through hybridization,synthesis and interactive dialogue.                                                                                                                            

     The research concluded with a set of results, one of the most important is that the writer used the conversational mechanisms as Mikhail Bakhtin said.This opening dialogue has aided her to express the rupture and dispersion of the reality,it went out of the traditional writing rules that has always characterized the feminist Algerian novel, she also allowed her to enter feature worlds,taboos was banned by social custom, thus the rules of masculine writing have also been broken.

مقدمة:

لم يعد الكاتب يفرض هيمنته كما في الرواية المونولوجية التقليدية، حيث كان يُعلي من وجهة نظره وأسلوبه، ويُنضّد صوته فوق جميع الأصوات داخل المجتمع الروائي، ويغيب دور الشخصيات ويهمشها، وقد تسنى له ذلك من خلال ترسيمة سردية يجعل فيها نفسه إله سرديا عارفا بكل شيء، من خلال خلق شخصيات محدودة المعرفة والثقافة أو ضاربة في تلابيب الجهل والأمية، وبهذا يعطي لذاته أحقية تسيير العالم الروائي كونه القدوة الواعية التي لا بد أن تحكمه.

أتت الرواية الحوارية التي أسسها “ميخائيل باختين” كنظرية غربية، فأضعفت دور الكاتب وسلبته سلطويته من خلال التعددية الصوتية، فلم يعد صوته إلا واحدا من بين جميع الأصوات في الرواية، واستطاعت “ربيعة جلطي” أن تؤسس في روايتها (عرش معشق) للحوارية بالآليات نفسها كما تحدث عنها “باختين”، من خلال اللغة العربية الفصيحة المنسجمة والمتداخلة في الوقت نفسه مع لغات ولهجات وأصوات متعددة. إذ تأتي جميع الأصوات السردية في الرواية بوقع قوي يضفي عليها طابعا حواريا بامتياز، أعطت فيه الكاتبة قيمة للتعدد اللغوي، الذي أهلها لأن تخرج من الأسلوب الواقعي الذي طالما ميّز الرواية النسوية الجزائرية، نحو كتابة سردية روائية جديدة، والتي نتوخى في هذه الدراسة التطبيقية المقدمَة على كشف تجلياتها من خلال التعدد اللغوي النصي، و سننطلق من فرضية أن هناك علاقة متداخلة بين النص الروائي / (اللغة)، وخارج النص /(الواقع الموضوعي) في ( عرش معشق)، و لأن قراءة النص الروائي في إطار نظرية ما تبقى معممة ما لم تتحصن بأسئلة منهجية يعي من خلالها الخطاب الروائي سيرورته، فإننا نسعى في هذا التحليل النقدي إلى الإجابة عن التساؤلات الآتية:

كيف تشكلت بنية رواية (عرش معشق) في ضوء صورة اللغة (التهجين / الأسلبة/ الحوار)؟ وكيف تفاعلت الخطابات وتعددت الأصوات داخل المتن الروائي؟ وما هدف الكاتبة “ربيعة جلطي” من مسايرة أساليب الرواية الجديدة، وما قيمة ذلك؟

نستهل البحث في إبراز خصوصية الكتابة في رواية (عرش معشق) لتبيان أسئلة الاختلاف بغية إدراك طبيعة التفكير في الرواية النسوية الجزائرية، والكشف عن همِّها الأنثوي الذي أرّقه الجرح التاريخي الذكوري، والذي مارس عليها سلطويته على مرّ أحقاب زمنية طويلة. وهذا ما جعل الكاتبة الجزائرية تبحث عن هويتها المغيبة من خلال جنس الرواية لتؤكد كيانها المختلف ومركزية دورها في الحياة وقدرتها على امتلاك سلطة النص.

أولا ـ خصوصية الكتابة في المتن الروائي وعلامات النسوية:

القارئ لرواية (عرش معشق) يلاحظ أن الكاتبة تصوغ حكيها بشكل مخالف لكتابة الرجل، حيث تنطلق “ربيعة جلطي” في روايتها من قضية تتلعق بخاصية الأنوثة، ويتمثل ذلك في عملية المخاض، تقول: ” ـ الراس الراس .. آيّا آيّا .. هاهو .. هاهو الراس بين يدي .. زيدي زيدي ادفعي شوية. يصيح صوت القابلة المتهدج، بينما أصابعها الخشنة تطبق على مؤخرة رأسي، تحاول أن تجذبني إليها وأنا أقاوم بكل ما أوتيت من جهد. يشتد ضجيج مهول في الخارج، يهز طبلة أذني البكريين، صراخ وجع أمي وهي تجمع قواها كي تلفظني بعيدا عن سكني فيها[1]، وضمن هذه الخصوصية تنبثق موضوعات أخرى تعبر عن الهوية النسوية ونهوض المرأة إلى الكتابة انطلاقا من النزعة الذاتية التي تميزها، ومنها “عاطفة الأمومة”، التي تتجلى “ضمن هذا العالم الشعوري الأنثوي، وهي الصفة المتمكنة من المرأة باعتبارها الصلة التي تشدها أكثر إلى الحياة، وتمنح كينونتها المعنى وتسهم في بلورة رؤيتها للذات والعالم”[2].

هذا ما جعل الكاتبة تتيقن أن الرجل مهما كتب عن هذا الموضوع فإنه لا يوفيه حقه، لأنه من بين المواضيع التي تكتب عن تجربة وعن إحساس، وهذا ما جعل الخالة حدهم تقول: “نجود تؤنس وحدتي. ربما هي لا تدري ما تقدمه لي من توازن في حياتي”[3].

يشتغل المتن الروائي طوال المسار السردي على إثارة الخصوصية النسوية عبر موضوعات تمثل شواغل المرأة ومدارات اهتماماتها التي تميزها عن الآخر / الرجل دون أن تقصيه بل تجعله عنصرا فاعلا في النص، فتتحدث عن حب الرجل للمولود الذكر ونفوره من المولود الأنثى، وتحمّل المرأة تبعات ولادتها للبنات، تقول نجود: ” “حدهم” اسم ألصقه جدي على جبين ابنته الخامسة، أملا أن تكون حدّا لولادة البنات تبعا لعادة القديمة في التبرك بالأسماء. تيمنا وأملا من جدي أن تكون “حدهم” الحد الفاصل بين الإناث اللواتي ولدن له، والذكور الكثر القادمين. لعل وعسى يأتي بعدها مباشرة ولد ذكر، مرفوع بالتنوين الظاهر في وسطه”[4]، طرحت الكاتبة هذه القضية من أبعادها الحسية والاجتماعية، واجتهدت في إبراز معاناة المرأة من هذا المنظور، حيث المرأة تضطر إلى الإكثار من الإنجاب إلى أن ترزق بولد، وهذا ما مثلته شخصية والدة “حدهم” تقول: “أمي المسكينة التي مع تحرك كل مخاض لها، لم تكن تفكر في الأوجاع الطاحنة التي تمزق أحشاءها، بل تنتظر فقط وبلهفة أن يتسلل من رحمها جسد لا يشبه جسدها، جسد مزود ببشارة الذكورة فتزغرد النساء”[5]. فواقع المرأة في المجتمع الروائي إن أخفقت في إنجابها للذكر تُطلق أو ترضى بضرة بإمكانها أن تنجب للزوج ذكورا، وبهذا فقد مثلت قضية تعدد الزوجات موضوعا يرعب فكر المرأة لأنه يهدد استقرارها العاطفي واستمرارية حياتها الزوجية بصفة طبيعية.

 تنوعت أسباب “تعدد الزوجات” في الرواية، ومنها نجد عقم الزوجة ورغبة الزوج في الخلف وبحثه عن أنثى ولود، ويعد هذا الموضوع من أكثر ما يرعب المرأة و قد مثل سؤالا جوهريا في هذا النص، حيث خلّف آثارا نفسية سلبية للخالة “حدهم” العاقر التي تتفاجأ بوجود ضرتها قاسمتها زوجها في السابق و أتت لتقاسمها الميراث في الحاضر، تقول نجود: “لم ينته كابوس خالتي حدهم، بل ازداد حلكة حين قدمت إلينا سيدة برفقة رجل قالت إنه محاميها الخاص. قدمت نفسها على أنها الزوجة الثانية لبوعلام ولها معه أربعة أبناء.”[6] و من هنا فالكاتبة أثارت قضية خيانة الزوج/بوعلام للزوجة/حدهم، عندما تزوج عليها دون علمها، فخلّف لها هذا الفعل مأساة نفسية و حسية، فـ “الأمر الذي لاحظت أنه أفزعها و دوخ رأسها و جرح كبريائها هو قدرة بوعلام و جرأته على الخيانة و الكذب منذ سنوات و على حبكه هذه المفاجأة غير السارة التي تركها لها هدية بعد عِشرة طويلة (…) الراجل ما فيه الثقة .. الراجل ما فيه الثقة..!!”[7]،و يأتي حديث خيانة الرجل من أهم المواضيع التي تشغل بال المرأة، و تجسد ذلك من خلال شخصية والد “عبدقا ” الذي يتظاهر بالعفة و الرزانة و الإخلاص لزوجته، لكن ابنه “عبدقا” لم يتوقع وجوده في الملهى الليلي يواعد المومسات، يقول “عبدقا”:” جمد الدم الجاري بغزارة في عروقي و انكمش جسدي مثل قنفذ شعر بخطر .. انحنيت بطريقة لا إرادية . كأن السقف سيسقط فوق رأسي حين لمحته من بعيد .. إنه أبي (…) أنتيا ليا و أنا ليك .. و الله إلى نشبعك ني… يا إلهي .. لا أستطيع أن أكمل جملة أبي “الشعرية “، إنها في غاية البذاءة .. ثم إنه أبي”[8].

تعد المجالس النسوية فضاء لسرد الحكايات الحميمية بين النسوة وهذا ما حاولت الكاتبة نقله عبر متنها الحكائي، حيث تحكي خالة “نجود” لجاراتها في بيتها عن ملاذ ليلة عرسها، “إنها تلك الذكرى التي سمعت خالتي يوما تقصها على جارتها بكثير من التفصيل والتذييل والحواشي. كان صوتها ساعتئذ مختلفا و عميقا و هي تسرد قصتها الدفينة الحارة عن ذلك اليوم السعيد المتفرد في وحدانيته بين أيام عمرها كلها، المحفور في وجدانها و ذاكرتها و إحساسها”[9] . وتحكي “مهدية ” لصديقتها “نجود” عن مغامراتها الغرامية مع عشيقها، أغربهن حالا مهدية صديقة طفولتي .. يا لمهدية أقرب الصديقات إلي، و أقدمهن و أعزهن .. كم من الوقت سال وانسكب وأنا أنصت بصبر أيوب إلى ما تسرده من التفاصيل الدقيقة المجهرية عن غرامها المجنون بمعشوقها الأول المدعو قاسم. فلا تترك شاردة ولا واردة إلا وتقصها علي بكل حرارة بحذافيرها و أكثر”[10].

تعددت مواضيع المتن الحكائي التي تعبر بالأساس عن خصوصية الكتابة النسوية في الرواية، و منها أيضا حديث الكاتبة عن العادة الشهرية[11]، وعن كيد النساء[12]، وعن المطبخ[13]، العذرية[14]، الجمال[15]، الغنج[16]،الغناء والرقص[17]، زيارة الأولياء الصالحين تبركا بهم[18]، إضاءة جانب مساهمة المرأة المناضلة في تحرير أرض الوطن و مشاركتها في الثورة التحريرية[19]،…إلخ. فالكاتبة حين تُعدد من مواضيع المتن الحكائي و تعطيه لمسة أنثوية، فهي تجعل هذا وسيلة لإبراز التعدد اللغوي كأسلوب روائي مضاف جنبا إلى جنب مع الكتابة الرجالية، ومن جهة أخرى فإن هذه التعددية تأتي داخل الرواية لتعرض الفئات و الشرائح الاجتماعية المتنوعة بمختلف مستوياتها المتعددة و المتفاوتة، ويتجلى هذا في مجموع أصوات الشخصيات المتكلمة (نجود ـ حدهم ـ مهدية ـ عبدقاـ بوعلام ـ نجود الشبح …إلخ).

سمحت تعددية مواضيع المتن الحكائي في رواية ( عرش معشق ) لبروز أصوات عديدة متكلمة ، وكذا بروز فضاءات، أزمنة، أيديولوجيات متعددة أيضا، و هذا ما أكسب الرواية تعددية على مستوى لغتها، ويسمى هذا النمط الكتابي بالأسلوب الحواري الذي ينهض بإعلاء التعددية على كافة المشكلات السردية في الخطاب الروائي الذي يحوي تنوعا كبيرا في أصناف الشخصيات، مما يفضي بالضرورة إلى تعددية الأصوات و اللغات، و في هذا التصنيف تجمع الرواية الحوارية ” الخطابات المختلفة، و تضعها في علاقة مواجهة، وتجعلها تتعايش وتتحاور، وتتعامل مع بعضها البعض”[20].

ارتكزت رواية (عرش معشق) على فكرة التعدد اللغوي الحواري الذي أتى كنتيجة حتمية للحوار الذي نشأ بين الأصوات المختلفة في الرواية، و المعبرة عن وجهة نظرها، فكرتها، موقفها من الحياة، بلسانها و لغتها الخاصة، نافية بذلك سلطوية الكاتبة “ربيعة جلطي ” و أحادية رؤيتها في بسط الحكاية، وسيتضح ذلك أكثر في ما يلي عند معاينة تجليات حوارية السرد في رواية (عرش معشق).

ثانيا ـ التعدد اللغوي الحواري:

1ـ التهجين:

تتولد اللغة الهجينة عبر آلية الانفتاح على الآخر، أثناء تفاعل وامتزاج لغة معينة بلغة أخرى لها وعيها المخالف، وبهذا الشكل تتخلق لغة ثالثة حاملة لعدة أيديولوجيات وثقافات، وتسمى باللغة الهجينة، التي يعرفها “ميخائيل باختين” على أنها: “مزج لغتين اجتماعيتين داخل ملفوظ واحد، واِلتقاء وعيين لغويين مفصولين داخل ساحة ذلك الملفوظ، ويلزم أن يكون التهجين قصديا”[21].

هذا يعني أن الكاتب هو يعبر عن إدراك العالم بإدراجه للتهجين، يكون واعيا وقاصدا ذلك، وهذا ما حاولت الكاتبة “ربيعة جلطي” إدراكه في روايتها (عرش معشق)، التي غدت “الساحة المفضلة للالتقاء بين أصوات ولغات ومنظورات متباينة من شأنها أن تخلع على النص (الملفوظ) الروائي صفة التهجين كإحدى أبرز معالم الخطاب الروائي الجديد”[22].

انفتحت رواية (عرش معشق) على خطابات وأساليب متعددة، فأتت لغتها في كثير من المواضع مهجنة قصدية، مستوعبة للواقع الشاسع بكل تفاصيله وتناقضاته ولغاته ولهجاته، وهذا التعدد مسح على الرواية صفة التجديد، لما حملته لغتها من مزج وتركيب للخطابات واللهجات الاجتماعية، كما توضحه الأمثلة الآتية:

1ـ1 التهجين / لغة أجنبية:

La belle et la bête[23]ـ

1ـ2 التهجين / لغة أجنبية بحروف عربية:

ـ شامبانزي[24]، سانتاكروز[25]، نورمال[26]،جوستومون[27]،سيناريوهات [28]،مايسترو[29]، الدبلوماسية[30].

1ـ3 التهجين / عامية جزائرية ولهجات عربية:

ـ أرواحو يا الخاوة نخبركم بالمفيد[31] / يا الله شو حلو.. من وين جبتيه لهذا يا نورة خانم؟[32] /الله وكيلك يا ستي .. البركي كلو حلو وعالأصول[33] /ما تخليهاش تخرج بزاف والله العظيم تهبل الغاشي[34].

1ـ4 التهجين /لغة بذيئة:

ـ لست أدري ما الذي يجعل خالتي حدهم تطيق وجود هذا البوعلام الصامط المر الحامض اللاذع الثقيل[35].

ـ واش راكي ديري يا الحمقا .. صايي خلاص هبلتي؟؟[36]

ـ وعلاش المرجاجو وسانتاكروز نتاع أمك؟ قلت له.[37]

ـ شوفي روحك في المرايا يا الغولة يا واحد السلوم الراشي[38].

ـ عملوها الكلاب[39].

من خلال هذه الأمثلة نفهم أن “ربيعة جلطي” شخصت لغات ولهجات اجتماعية مختلفة، وتسنى لها ذلك عن طريق التنويع في توظيف التهجين، فوظفت تهجينا على مستوى الجملة ـ على قلته ـ ويظهر ذلك من خلال استحضارها للجملة المكتوبة باللغة الفرنسية وربطها بالجملة المكتوبة باللغة العربية داخل الرواية.

كما يحضر في النص نوعا آخرا من التهجين على مستوى الكلمة، وتمثله الملفوظات المكتوبة بحروف عربية والحاملة لدلالة فرنسية، وهكذا يكون القارئ أمام كلمات مهجنة تحمل وعيا لسانيا عربيا مع وعي لساني أجنبي.

اختارت الكاتبة “ربيعة جلطي” اللهجة الشامية كلغة ثانية تضيء بها اللغة الفصيحة في الرواية، فأرادت من هذا التلفت، خلق عمل أدبي هجين حامل لوعيين ثقافيين، “فليس ما يظهر من الحقل الذي يضيئه اللسان الأجنبي هو النظام الصوتي للغة المحلية أو خصائصها المورفولوجية أو حتى معجمها المجرد بل، وبدقة، ذلك الذي يجعل من اللغة إدراكا محسوسا للعالم لا يمكن ترجمته إطلاقا وبالتحديد أسلوب اللغة كوحدة كاملة”[40].

نقلت الكاتبة بشكل كثير وملحوظ اللهجات العامية الجزائرية، وبهذا الأسلوب تكون قد تشكلت الأسلبة من خلال إضاءة الوعي اللساني للغة الفصحى في الرواية بالوعي اللساني للهجة العامية الجزائرية.

ليس من الغريب أن يجد القارئ اليوم في الرواية الحوارية ملفوظات لا يستسيغها، لذا عمدت الكاتبة على ألا تغفل عن استحضار اللغة البذيئة داخل المتن الحكائي، بل أسهبت في توظيفها بمنطوقها الأكثر حدة أيضا، والتي لم نمثل بها، بل تركناها قابعة في نصها.

 وُفقت الكاتبة في اختيار الشخصية المتكلمة بهذه اللغة السوقية، حيث انتقت شخوص روائية مهمشة وذات مستوى ثقافي محدود داخل المجتمع الروائي، لتكون ناطقة بها ومُمررة لمشاهد جنسية متعددة.

بهذا الشكل تكون “ربيعة جلطي” قد تجاوزت حدود الكتابة التقليدية المتحفظة، و انفتحت على الجانب الهش من الواقع فنقلته بتفاصيله المقرفة، “إنها ثقافة المواجهة والسفور، في مقابل ثقافة الحشمة والحياء”[41]، ويُعد استحضار الكاتبة للتهجين البذيء داخل المتن الروائي كسرا للطابوهات، وقد تذرعت بمبرراته الفنية، حيث أصبح مثل هذا التوظيف دالا على سمة التجديد على مستوى البنية النصية، من خلال تجاوزها للغة التقريرية الإخبارية المحتشمة، و كسر قواعد الكتابة التقليدية، والخروج عن لغتها في التعبير و الاستبيان عن حقيقة الواقع .

من منظورنا أن على الكاتبة العزف عن الاهتمام بنقل الجانب المقرف والهش من الحياة إلى النص الروائي، كونها صاحبة رسالة وصانعة أجيال، فضلا على أن هذا السلوك يتعارض مع ديانتنا الاسلامية للأغلبية المغاربية، ويتنافى مع عادات وتقاليد المرأة في المجتمع المسلم.

ساهم التهجين في رواية (عرش معشق) في إبراز العنصر السوسيولساني، عن طريق تحيين اللغة الثانية وربطها بكيان الرواية، وبهذا تكون الرواية قد حظيت بالتثاقف اللغوي، وهو ما أهلها لأن تتكلم بلسان مزدوج، وتكتسب ثنائية صوتية و نبرية، فهي “لا تشتمل فقط على وعيين فرديين، على صوتين، على نبرتين، بل على وعيين اجتماعيين –لسانيين-  وعلى حقبتين ليستا، في الحقيقة مختلطتين هنا بكيفية لا واعية، بل هما قد اِلتقيا بوعي، وتتصارعان فوق أرض الملفوظ”[42].

استمدت الهجنة الفردية والقصدية الواعية وجودها في الرواية من خلال تحاور اللغات، واستدعاء اللهجات ودمجها داخل النسق الروائي، وهذا ما يفسر سماع صوتين داخل الملفوظ الواحد، قد يتشابك صوت مع صوت لإبراز الوعي المقصود، وقد يطغى الواحد على الآخر فيضيئه، وعلى هذا النحو الحواري اشتغلت جميع الهجن داخل المتن الروائي.

2ـ الأسلبة / العلاقات المتداخلة ذات الطابع الحواري بين اللغات:

يسمى تشخيص الكاتب لأسلوب لساني غيري بـ: “الأسلبة”، ويعرفها “ميخائيل باختين” على أنها “لغة واحدة محينة وملفوظة إلا أنها مقدمة على ضوء اللغة الأخرى، وهذه اللغة الثانية تظل خارج الملفوظ و لا تتحين أبدا”.[43]

هذا يعني أن الكاتب يأتي على أسلبة ونقل لغات أخرى ( قد تكون لغة القدماء) في حلة جديدة، و بهذا يعيد خلق الأسلوب المؤسلب، بحيث نلمس وراء لغة هذه المقاطع لغات أخرى متخفية، مقدمة في شكل جديد آني، يمثله الملفوظ الذي أتى به داخل المقطع السردي، و بالتالي تصبح اللغة المحينة، و هي في هذا الملفوظ حاملة في أحشائها لغة متوارية لكن علامات وجودها ظاهرة في صورة اللغة، فهي بمثابة “إضاءة متبادلة بين اللغات،و هي إضاءة لا يشترط فيها ـ كما هو الشأن في التهجين ـ حضور لغتين في ملفوظ واحد، و إنما تظهر في ملفوظ لغة واحدة، غير أنها مقدمة في صورة آنية، و لا يمكنها بالطبع أن تحصل على هذه الصورة الآنية إلا إذا قدمت بواسطة وعي لغة آنية خفية تعمل بشكل غير مباشر”[44].

تصنّف الأسلبة ضمن اللغات الجميلة في العرف الأدبي كونها سلوك بلاغي متأنق، تبرز وظيفته اللسانية في تجسيم الأصوات المتباينة وإظهار وجهات النظر وتمييزها بين أسلوب كل صوت في الحكي والقص، وما تحمله من مسرحة للأحداث أثناء تفاعلها الحواري.

وظفت ربيعة جلطي الأسلبة في رواية (عرش معشق)، فاستقت من لغات عدة، وأعادت خلق لغة ماضية وإحيائها داخل رحم أسلوبها الكتابي، ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال الأمثلة الموالية:

2ـ1 ـ الأسلبة من القرآن الكريم:

نستشف من خلال الأمثلة الموالية أسلبة القرآن الكريم، من خلال مزج النص الأصلي بالنص المؤسلب داخل الرواية:

ـ أ ـ    اللغة المُحينة (الآنية):  ” في الحقيقة لم يكن حظي كبير و لا هم يحزنون”[45].

       اللغة المُؤسلبة: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) ﴾[46].

ـ ب ـ    اللغة المُحينة (الآنية):   ” جئن إلى الضريح من كل أنحاء البلد، من كل فج عميق”[47].

         اللغة المُؤسلبة: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27(﴾[48].

ج اللغة المُحينة (الآنية) “الإشفاق عليها من تجربة أخرى أخشى ألا تكون بردا وسلاما على                                                                                                                                                                                قلبها الطيب”[49].

         اللغة المُؤسلبة: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ (69(﴾[50].

د اللغة المُحينة (الآنية):   ” كنت أدرك أنها من فعل نجود التي تملؤني بسحر ما أنزل الله به من سلطان”[51].

     اللغة المُؤسلبة: ﴿إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا    تَهْوَى الْأَنفُسُ ۖ وَلَقَدْ جَاءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَىٰ (23)﴾[52].

         تظهر الأسلبة من القرآن الكريم في الأمثلة أعلاه من خلال اللغة المــُحينة الحاملة للقرينة الدالة على أن هذا الملفوظ حامل لصوتين و وعيين، الأول تمثله العبارة المتجلية أمام القارئ في لغة تحيينية، أما الصوت/ الوعي الثاني هو النص الغائب / نص القرآن الكريم المستحضر ضمنيا داخل ملفوظ اللغة التحيينية، “فالوعي اللساني الثاني للمؤسلب ولمعاصريه يباشر عمله اعتمادا على المادة الأولية للغة المؤسلبة، ولا يتحدث المؤسلب عن موضوعه إلا من خلال تلك اللغة التي سيُؤسلبها والتي هي أجنبية بالنسبة إليه، لكن هذه اللغة الأخيرة هي نفسها مقدمة على ضوء الوعي اللساني المعاصر للمؤسلب، فاللغة المعاصرة تلقي ضوءً خاصا على اللغة موضوع الأسلبة: إنها تستخلص منها بعض العناصر، وتترك البعض الآخر في الظل، وتوجد نبرات خصوصية، ومقامات تناغمية بين اللغة موضوع الأسلبة وبين النوع اللساني المعاصر، وباختصار، فإنها تخلق صورة حرة للغة الآخرين لا تترجم إرادة ما سيؤسلب فحسب، بل أيضا الإرادة اللسانية والأدبية المؤسلبة”[53].

تمثلت الأسلبة هنا من خلال استحضار “ربيعة جلطي” لقول الله تعالى في القرآن الكريم، فلم تستعر القول القرآني ككل، بل اختارت القرينة الأكثر إشارة إلى نصها الأصلي و أدمجتها الكاتبة في أسلوبها الخاص لتقوي صوتها، و من هنا نلمس صوتان لغويان يعملان سويا في إثراء و تكثيف و تشخيص الفكرة الموضوع،و وفق هذا الأسلوب تمت المزاوجة اللغوية للوعي اللساني في رواية (عرش معشق).

2ـ2 ـ الأسلبة من الشعر:

نستشف من خلال الأمثلة الموالية أسلبة الشعر العربي الفصيح، من خلال مزج النص الأصلي بالنص المؤسلب داخل الرواية:

    اللغة المُحينة (الآنية):” إلا أن السفن لم تجر رياحها بما يشتهي جدي الحاج التقي “[54].

أ.   اللغة المُؤسلبة:يقول أبو الطيب المتنبي:

     مَا كُلُّ مَا يَتَمَنَّى الْمَرْءُ يُدْركُهُ * تَجْري الرّيَاحٌ بمَا لَا تَشْتَهي السَّفَنُ

       اللغة المُحينة (الآنية):” إذن فحذار أن يجهل أحد عليه فيجهل فوق جهل الجاهلينا”.[55]

  اللغة المُؤسلبة: يقول عمرو بن كلثوم في معلقته: ب.  

      أَلاَ لاَ يَجْهَلَـنَّ أَحَـدٌ عَلَيْنَـا     فَنَجْهَـلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِيْنَـا

تجاوزت الأسلبة في هذه المقاطع السردية اللغة المؤسلبة ذات الاستعمال الخبري التقريري، واستسيغت العناية الإبداعية في التصنيف والزخرفة الأسلوبية، ففي مباشرة الإجراء إنما تمزج شعرية اللغة المتوارية (النص الأصلي: الشعر العربي الفصيح) بشعرية اللغة الحاضرة (النص المؤسلب: أسلوب الكاتبة في الرواية)، فتنتج ضربا من التركيز الحسي، لما تحمله من مهارة الإجراء، عندما تجعل من لغتين متباعدتين عن بعضهما البعض تتناغمان في صوت واحد، وتخلقان في نسق واحد، فتغادر اللغة الأولى “لغة الشعر” منزاحة إلى قوانين الانتظام في بناء اللغة المُضيفة “لغة الرواية”، وتنفتح هذه الأخيرة انفتاحا حرا على بلاغة الأولى، فتحدثان معا وقعا حدسيا لدى المتلقي لا يحتاج إلى إعمال العقل لمعرفته، فما تحمله من تمازج فني تجعله يكشف عن حضورها بما تتركه اللغة المتوارية في الحاضرة من قرينة تدل عليها. فالكاتبة وهي تستعير أسلوب الآخر تأخذ بالجزء وتترك الآخر في الظل وبهذه الطريقة تتم عملية الأسلبة، بحيث يبقى الجزء المستعار دالا على نصه الأصلي رغم حضوره في حقل لغوي مخالف والذي يمثل لغة الكاتب المُستضيفة.

2ـ3ـ الأسلبة من المثل:

نستشف من خلال الأمثلة الموالية الأسلبة من المثل، من خلال مزج النص الأصلي بالنص المؤسلب داخل الرواية:

أ   ـ اللغة المُحينة (الآنية):” وحين توالت ضربات كفها على أسفل ظهري عدة مرات، بلغ منى       

     الغضب أقصاه وبلغ السيل الزبى، فصرخت فيها بحدة، فتوقفت عن ضرب مؤخرتي”[56].

    ـ اللغة المُؤسلبة: بلغ السيل الزبى.

نلاحظ في هذا المثال أن اللغة الآنية اكتسبت أهميتها من خلال تشخيصها للأسلوب اللساني للغة المتوارية من المثل، ومن هذا الاستحضار للمثل العربي الفصيح تصبح لغة الكاتبة حاملة لصوتين الأول هو أسلوبها الخاص والثاني هو تضمين “المثل” فيه.

  لم تحضر الأسلبة من “المثل” بقوة في رواية (عرش معشق)، كما حضرت بقوة من القرآن والشعر العربي الفصيح، كما تغيب الأسلبة من اللغات الأخرى والتي نجدها حاضرة بقوة مثلا في روايتها (نادي الصنوبر) كالأسلبة من الحديث النبوي الشريف، والحديث القدسي، ولغة المتصوفة.

نصل إلى أن الكاتبة “ربيعة جلطي” استطاعت أن تمرر صوتها من خلال هذا التفاعل النصي الذي يرمي بالدرجة الأولى إلى هدم الحدود بين الخطابات والانفتاح على الآخر، وتعد الاستعارة من أسلوب الآخر قوة تضيفها الكاتبة إلى قوة صوتها لتسخر من الواقع وترفضه بشدة، “عبر تفاعل نصي قصدي إما “تحويلا” أو “تحقيقا”، أو خرقا لنماذج أولية بهدف تجاوز أحادية اللغة الروائية والخطية التقليدية للرواية الكلاسيكية، ومن هذا المنظور، تبرز قصدية الصنعة في استقطاب أشكال سردية تراثية

تستهدف بلورة طريقة جديدة في السرد تعتمد عناية مورفولوجية عبر كتابة إسنادية مقولية”[57]، انتسبت في هذا النص الروائي إلى القرآن الكريم والشعر الفصيح والمثل العربي.

3 ـ الحوار الحواري:

ينظر للحوار عموما على أنه الأداة اللغوية الفنية التي يتوسلها الكاتب للإدلاء بفكر الشخصية وعرض آرائها وتنظيم مقولاتها، ويعتبره “باختين” ـ بصفة خاصة ـ هدفا بذاته وليس مجرد وسيلة، كونه مقدمة تقود إلى الحدث، وفيه يتكشف للشخصية حقيقتها لنفسها و للآخرين، ويأتي في أحيان كثيرة بؤرة الحدث نفسه، التي تسيّر المسار السردي حواريا.[58]

استند “باختين” في حديثه عن الحوار لمدى فهم ووعي الشخصية لنفسها، وجعل العملية الحوارية تتم داخل العمل الأدبي من خلال اِلتفات الشخصية إلى عالمها داخلي ـ الإنسان الداخلي فيهاـ ليكتمل فهمها لذاتها، يقول أنه “يستحيل التمكن من الإنسان الداخلي، ورؤيته و فهمه، بأن نجعل منه موضوعا للتحليل الحيادي والخامل، كما يستحيل التمكن منه عن طريق الاندماج معه و تحسسه. كلا، إن من الممكن الاقتراب منه والكشف عنه، أو بكلمة أدق، إجباره على التكشف وذلك فقط عن طريق الاختلاط به، وبطريقة حوارية”.[59]

نفهم من هذا، أن “باختين” يُمدد العلاقة الحوارية إلى الحوار الداخلي، أي أنه “يوسع مفهوم الحوارية إلى درجة يصير فيها المونولوج (الحديث الذاتي) نفسه حواريا”[60].

وبالرجوع إلى رواية (عرش معشق) نجد أن الكاتبة “فضيلة الفاروق” جعلت من الحوار الداخلي نقطة ارتكاز للمسار السردي ككل، ويظهر ذلك من خلال عتبة النص / عنوان الرواية (عرش معشق)، الذي أضاء الموضوع الأساسي المطروح داخل المتن الروائي.

العرش المعشق كما جاء في الرواية يعبر عن تحفة أثرية من هيكل الزجاج المعشق، الذي ورثه “بوعلام” عن أمه، وزيّن به عتبة باب شقته، وكثيرا ما كانت “نجود” التي ربتها خالتها “حدهم” زوجة “بوعلام” تجلس إليه محدثة ذاتها و باكية عن مدى بشاعتها التي تحرجها كثيرا، إلى أن تجلى منه في يوم من الأيام شبح أختها الشقراء الجميلة، التي قيل لها أنها توفيت رضيعة وأنها حاملة لاسمها و لتاريخ ميلادها أيضا، ومن هنا أصبح هيكل الزجاج المعشق هو عرش وعالم نجود البشعة أخت نجود الجميلة، ومن خلاله ترى الأولى ذاتها الثانية الجميلة المنشطرة عنها التي تفهمها وتجادلها وتحاورها و تعي ما يجول في فكرها.

يسير الحدث الحواري في الرواية بأسلوب عجائبي حيث تندمج ذات “نجود” الجميلة الخارجة من الهيكل المعشق بذات “نجود” البشعة، تقول:ثم عند المدخل لمحت ظلين ينعكسان في المرآة. ظلي وظل نجود التي خرجت من هيكل الزجاج المعشق للتو تسل أثوابها الشفافة الطويلة. ظلها يتماهى ثم يتداخل بظلي .. صرنا واحدة ..إنها أنا و إنني هي .. شعرت كأن جسدي يمتلئ فجأة بماء الورد. يكتنز به حتى ليكاد ينزل العسل من مساماته. يصعد حتى وجنتي. كنت أشعر أنني لست قبيحة تماما.. ربما أنا جميلة. أو ربما جميلة جدا.”[61]، “كأنني أسير كما يراد لي أن أكون. كما يقسم لي .. أطول كقامتي امرأتين اثنتين أو أكثر. كجسدين معا في جسد واحد. أحمل “نجود” أختي الراحلة وأنا. ممتلئة بحياتين معا ومخلوقين معا”[62].

توظف “ربيعة جلطي” اندماج الذاتين بالطريقة التي أخبر بها “ميخائيل باختين” حيث يصير حديث “نجود” البشعة إلى “نجود” الجميلة بمثابة مونولوج، و تعد الشخصية الثانية هي مزدوج الشخصية الأولى التي تقويها و تغطي بشاعتها بجمالها، ففي لقاء دبراه معا لفتنة الشاب “عبدقا” ساعد المزدوج/ذات نجود الجميلة، على طمس بشاعة نجود و ذلك بإضاءة الوجه البشع جمالا، و في حديث مونولوجي بين الذاتين نسمع: “أنا التي رآني فيك .. لولاي لما رآك لقد شغف بنا معا أنا وأنت. فهل تنكرين ذلك”[63].

يرى “باختين” أن المزدوج هو “أول اعتراف مشبع بالروح الدرامية في أعمال دوستويفسكي الإبداعية “[64]. وجاء المزدوج في رواية ( عرش معشق ) ليمثل بؤرة الحدث الدرامي، حيث أن القص فيها انبنى على انشطار ذات الشخصية البشعة إلى ذات ثانية جميلة، ومثّل فيها المزدوج الصوت المستحضر داخل المنظور الشخصي لنجود البشعة، أي هو الحوار الداخلي الذي تجريه مع نفسها و كأنها شخص ماثل أمامها، حيث تعيش نجود البشعة حياة مضطربة، فاقدة لتوازنها، وحدتها، و تماسكها، بسبب افتقارها للجمال و عدم اعتراف العالم الخارجي بها كأنثى، فتلجأ إلى المزدوج ليساندها من خلال اندماجه الروحي فيها و بهذه الطريقة يلهمها جماله كي تغطي به بشاعتها، فحضوره فيها يقويها و يعطيها توازن نفسي، تقول: “حضور نجود يجعلني قوية، و غيابها يربكني .. فلا أستقر على حال. يحضر الشيء فيّ ويحضر ضده”[65].

ومن هنا فالمزدوج/ نجود الجميلة تعول عليه الشخصية “نجود البشعة” في فك طلاسم نفسها الضائعة، فتعتبره مرشدها الروحي الذي يظل في حوار داخلي معها، بحيث ترى فيه مخرجها من أزماتها، فتلجأ إليه لأنها تعتبره مقويها من نكساتها الروحية، ومن هنا تشحن الكلمة الحوارية بصوتين (صوت الشخصية: نجود البشعة / صوت المزدوج: نجود الجميلة)، فتداخل صوت الشخصية بصوت المزدوج واندماجهما معا في وعي وكينونة واحدة هو ما يخلق تعددية صوتية في القول الواحد.

جسدت الكاتبة صورة العالم المتشظي باعتمادها على المزدوج، حيث وظفته كرمز، للتدلال على الواقع الموضوعي، فترى أن الذات تنطوي على ذاتين، وهذا التعدد يفضي إلى تنوع مواقف الشخصية حد التعارض والتضاد، وهو ما ينطبق على معظم شخوص الرواية الجديدة من حيث هي شخوص تعيش ازدواجية نفسية، مريضة، تشعر بانفصال عن العالم الخارجي، وغير قادرة على الاندماج مع الموقف الواحد، ولا على جمع شتات أفكارها.

خاتمة:

نخلص في نهاية هذا البحث إلى أن التعددية في رواية (عرش معشق) خلقت تفاعلا بين أنماط الوعي والأيديولوجيات، وسمحت للنظرة الشمولية للعالم بالبروز، فتكشفت مجموع الرؤى المعبرة عنها بالكلمة الحوارية الحاملة لصوتين على الأقل في الكلمة الواحدة، التي جسدت الموقف الاجتماعي، وهذا ما حقق مفهوم الحوارية في هذه الرواية التي ينظر إليها “باختين” أنها تعبر عن الواقع بالدرجة الأولى، وما يحقق شموليتها هو احتواؤها على التهجين والعلاقات المتداخلة بين اللغات والحوارات الخالصة.

اتجهت الكاتبة للتهجين اللغوي لخلق وعي فردي ناطق بلغة مكثفة بإمكانه التعايش مع الواقع الروائي المكتظ بالتنوع والتناقضات، فطُبق في رواية (عرش معشق) بطريقة واسعة من خلال عدة لغات، وبهذا اتخذت اللغة المُضيئة (المـُحينة) طابعا موضوعيا عكس صورة اللغة في هذا الخطاب الروائي.

 ساهمت الأسلبة في رواية (عرش معشق) على تقوية الصوت السردي بطابع حواري متميز كسرت من خلاله رتابة اللغة الروائية التقليدية التي ميزت مدة طويلة الرواية النسوية الجزائرية، وعملت على كشف التباين الفكري والمستوى الثقافي إزاء الحدث الواحد، وعبرت بمصداقية عن طبيعة الأصوات وإمكاناتها وملكاتها.

         مثــّـل المزدوج في رواية (عرش معشق) الصوت الثاني المتخفي داخل المنظور الشخصي، الذي عمل على إبراز كلمته الداخلية، وهو الصوت الحواري الذي عولت عليه “ربيعة جلطي” لإضفاء التعددية اللغوية في الخطاب الروائي، وقد وظفته الكاتبة بأسلوب عجائبي للاستدلال على غموض العالم الواقعي و تشظيه، وبالتالي فقد رسمت الكاتبة الشخصية التخييلية وفق أسلوب الرواية الجديدة، من حيث أنها واعية بواقعها، لكن غير قادرة على التغيير فيه، و لهذا تدخل في حوار داخلي معمق مع ذاتها الثانية المنشطرة عنها / المزدوج ـ باحثة عن توازنها النفسي ـ التي تفضي بها إلى حالة شبيهة بالجنون والهذيان .

 بهذا الشكل تكون رواية (عرش معشق) قد نفت الخطاب المتسلط الخاضع لسلطة الكاتب ذو الأسلوب الواحد والوعي المفرد الذي طالما ميّز الرواية التقليدية النسوية الجزائرية، وتم ذلك من خلال إعطاء الكاتبة أهمية واضحة لآليات التواصل الحواري داخل تداولية هذا الخطاب، الذي تحددت قدرته على خلق التعدد اللغوي، وهو ما مكّن هذه الرواية في أن تصنف في خانة النصوص الحداثية من حيث هيمنة تقنيات الكتابة الروائية الجديدة، باعتبار أن التعدد اللغوي الحواري يُعدّ سمة للرواية الجديدة.

يعتبر الانفتاح الحواري الركيزة الجوهرية التي شيدت عليها الرواية الجديدة مرتكزاتها، وسمح لها بولوج عوالم روائية كانت من قبل محظورة، وعلى هذا الأساس انطلقت “ربيعة جلطي” في تشييد عوالم (عرش معشق)، التي انفتحت على عالم الطابوهات ـ الجنس بخاصة ـ، وولجت عوالم أنثوية بامتياز كسرت من خلالها قوانين الكتابة الذكورية، وتجاوزت بجرأة القيود التي سنها العرف الاجتماعي، راسمة بذلك خصوصية كتابية نسوية شكلت عبرها ذاتها وهويتها وكينونتها.

قائمة المصادر والمراجع:

1/ القرآن الكريم

2/ المصادر:

جلطي ربيعة، عرش معشق، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الجزائر، بيروت، ط1، 2013.

3/ المراجع:

ـ ب ـ

  • باختين ميخائيل، الخطاب الروائي، تر: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، دت.
  • باختين ميخائيل، شعرية دوستويفسكي، تر: جميل نصيف التكريتي، مر: حياة شرارة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1986.
  • ـ ت ـ
  • تودوروف تيزفيتان، ميخائيل باختين المبدأ الحواري، تر فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1996.
  • ـ ج ـ
  • بن جمعة بوشوشة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، المغاربية للنشر، تونس، ط1، 2003.
  • ـ ش ـ
  • شرفي عبد الكريم، مفهوم التناص، من حوارية ميخائيل باختين إلى أطراس جيرار جنيت، دورية دراسات أدبية، الجزائر، ع.2، جانفي 2008.
  • ـ ع ـ
  • بن عافية وداد، الشعر النسوي الجزائري، سياق التكون البنية وإبدالاتها، دار نوميديا، الجزائر، دط، دت.
  • ـ ف ـ
  • فيصل أحمد نهلة، التفاعل النصي، التناصية النظرية والمنهج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2010.
  • ـ ل ـ
  • لحميداني حميد، أسلوبية الرواية، مدخل نظري، منشورات دراسات سال، الدار البيضاء، ط1، 1989.
  • ـ هـ ـ
  • بن هاني سعيد، شعرية التعدد اللغوي في رواية سرايا بنت الغول، مجلة علامات في النقد، المملكة العربية السعودية، م.14، ديسمبر 2004.

[1] ربيعة جلطي، عرش معشق، منشورات الاختلاف، منشورات ضفاف، الجزائر، بيروت، ط1، 2013، ص 10.

[2] بوشوشة بن جمعة، التجريب وارتحالات السرد الروائي المغاربي، المغاربية للنشر، تونس، ط1، 2003، ص 179.

[3] الرواية، ص60.

[4] الرواية، ص 20.

[5] الرواية، ص 59.

[6]الرواية،ص 137.

[7] الرواية، ص 138.

[8] الرواية، ص 125، 126.

[9] الرواية، ص 28.

[10] الرواية، ص 84.

[11] ينظر الرواية، ص 129.

[12] ينظر الرواية، ص 94.

[13] ينظر الرواية، ص 100.

[14] ينظر الرواية، ص 40ـ45.

[15] ينظر الرواية، ص 40 ـ63 ـ66.

[16] ينظر الرواية، ص 89.

[17] ينظر الرواية، ص 118 ـ153.

[18] ينظر الرواية، ص 67.

[19] ينظر الرواية، ص ن.

[20] شرفي عبد الكريم، مفهوم التناص، من حوارية ميخائيل باختين إلى أطراس جيرار جنيت، دورية دراسات أدبية، الجزائر، ع.2، جانفي 2008، ص 70.

[21] ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، القاهرة، ط1، دت، ص 18.

[22] سعيد بن هاني، شعرية التعدد اللغوي في رواية سرايا بنت الغول، مجلة علامات في النقد، المملكة العربية السعودية، م.14، ديسمبر 2004، ص 589.

[23] الرواية، ص 80.

[24] الرواية، ص 62.

[25] الرواية، ص 77.

[26] الرواية، ص 78.

[27] الرواية، ص 135.

[28] الرواية، ص 143.

[29] الرواية، ص151.

[30] الرواية، ص 161.

[31] الرواية، ص31.

[32] الرواية، ص 38.

[33] الرواية، ص ن.

[34] الرواية، ص 71.

[35] الرواية، ص 43.

[36] الرواية، ص 50.

[37] الرواية، ص 79.

[38] الرواية، ص 80.

[39] الرواية، ص 158.

[40] تيزفيتان تودوروف، ميخائيل باختين المبدأ الحواري، تر فخري صالح، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط2، 1996، ص 123.

[41] وداد بن عافية، الشعر النسوي الجزائري، سياق التكون البنية وابدالاتها، دار نوميديا، الجزائر، دط، دت، ص 63.

[42] ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر محمد برادة، ص 121.

[43] المرجع نفسه، ص 122.

[44] حميد لحميداني، أسلوبية الرواية، مدخل نظري، منشورات دراسات سال، الدار البيضاء، ط1، 1989، ص 87.

[45] الرواية، ص17.

[46] سورة يونس، الآية 62.   

[47] الرواية، ص 67.

[48] سورة الحج، الآية 27.  

[49] الرواية، ص 86.

[50] سورة الأنبياء، الآية 69.

[51] الرواية، ص 94.

[52] سورة النجم، الآية 23.

[53] ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، تر محمد برادة، ص 122.

[54] الرواية، ص 20.

[55] الرواية، ص 36.

[56] الرواية، ص 14.

[57]سعيد بن الهاني، شعرية التعدد اللغوي في رواية سرايا بنت الغول، مجلة علامات في النقد، م .14، ص582.

[58] ينظر ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، تر جميل نصيف التكريتي، مر حياة شرارة، دار توبقال للنشر، المغرب، ط1، 1986، ص 365.

[59] المرجع السابق، ص ن.

[60] نهلة فيصل أحمد، التفاعل النصي، التناصية النظرية والمنهج، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ط1، 2010، ص 105.

[61] الرواية، ص 63.

[62] الرواية، ص 23.

[63] الرواية، ص 65.

[64]ينظر ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، تر جميل نصيف التكريتي، مر حياة شرارة، ص 314.

[65] الرواية، ص 96.

Leave A Reply

Your email address will not be published.