الحوار الإسلامي المسيحي: دراسة في الموضوعات المسيحية

ذة. لوبنة الغازي

الحوار الإسلامي المسيحي: دراسة في الموضوعات المسيحية

Islamic-Christian Dialogue: A Study on Christianity Issues

ذة. لوبنة الغازي
كلية الآداب والعلوم الإنسانية –
جامعة محمد الخامس – الرباط – المغرب

ملخص:

إن عقيدة المسيحيين المستقاة من قانون الإيمان المسيحي الذي تمت صياغته من قبل المجامع الكنسية عبر محطات متعددة خاصة مجمع نيقية لعام 325م، ومجمعي القسطنطينية لعامي 381م و431م، تضمنت عقيدة التثليث وتأليه المسيح، وعقيدة التجسد والخطيئة الأصلية والصلب والفداء، ثم عقيدة مريم العذراء عليها السلام، فعقيدة غفران الكنيسة للخطايا. وهي موضوعات تثار في محافل الحوار الإسلامي المسيحي مما يستوجب على المحاور المسلم الوقوف عليها ودراستها لأجل امتلاك الحجج العلمية التي يتطلبها الحوار.
إن العقيدة المسيحية الحالية إنما صيغت عبر مراحل زمنية معينة، تطورت تبعا للتأثر بالبيئة التي عاشها أصحاب المجامع الأولى، الذين صاغوا هذه العقائد وفق ما حملوا من عقائد أقوامهم قبل دخولهم في المسيحية، خاصة بعد دخول شاوول اليهودي الذي تسمى باسم بولس الرسول. وعلى مر تاريخ المسيحية الطويل لم تخل فترة من وجود طائفة الموحدين، ولا يزال وجودهم مستمرا إلى وقتنا الحاضر، الذين يحاولون في كل مناسبة مواجهة الكنيسة بعقيدتهم التوحيدية، وتسمي الكنيسة هؤلاء الموحدين وأتباعهم بالهراطقة والمجدفين وأصحاب البدع.
ومن العلماء المسلمين الذين درسوا العقيدة المسيحية الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه القيم «إظهار الحق» حيث أشار إلى مجموعة كبيرة من أقوال كبار علماء المسيحية تبين كلها وقوع التحريف إما بالتبديل أو الزيادة أو النقصان في كل أسفار الكتاب المقدس عند المسيحيين بعهديه القديم والجديد.
الكلمات المفتاحية: حوار، الإسلام، المسيحية، الكنيسة، العهد القديم والجديد.

Abstract:
The Christian doctrine is drawn from the Christian Faith Law that was formulated by the ecclesiastical councils through several stations, especially the Council of Nicaea for the year 325 g, and the Council of Constantinople for the years 381g and 431g , where the Christian doctrine included the following: The Doctrine of the Trinity and Deification of Christ and The Doctrine of Incarnation, Original Sin, Steel, Redemption, the doctrine of the Virgin Mary, peace be upon her, and the Doctrine of the Church’s Forgiveness of Sins.
They are the same issues that arise in the forums of Islamic-Christian dialogue, which require Muslim interlocutors to stand and study them in order to possess the scientific arguments required by the dialogue. The bottom line is that the current Christian doctrine was formulated through certain time periods, which evolved according to the environment affected by the owners of the first councils, who formulated these doctrines according to what they carried from the doctrines of their people before entering Christianity, especially after the entry of the Jewish Shaul who is called Paul the Apostle.
Throughout the long history of Christianity, the period of the existence of the Almohad sect has not escaped and their presence continues to the present day, who are trying on every occasion to confront the Church with their monotheistic faith, and the Church calls these Almohads and their followers heretics, blasphemers and heresy.
Among the Muslim scholars who studied the Christian faith, Sheikh Rahma Allah of India, in his valuable book, “Show the Truth”, where he referred to a large group of sayings of the leading Christian scholars, all of which reveal the occurrence of distortion, either by altering, increasing or decreasing all the books of the Bible in the Christians of the Old and New Testaments.
Keywords: Islam, Christianity, dialogue, issues.

مقدمة:

حتمت الطبيعة الاجتماعية للإنسان إقدامه على ربط علاقات إنسانية بقصد ضمان استمرارية الحياة المتمثلة في احترام الحقوق والواجبات بين بني البشر؛ إلا أن هذه العلاقات تضبطها ضوابط وأعراف مختلفة، وأهم ضابط متحكم في السلوك الإنساني نجد الدين.
ويأتي الحوار الديني بين الإسلام والمسيحية أسلوبا لنسج علاقات تحقق التعايش من خلال معرفة الآخر بالوقوف على موضوعاته العقدية التي يمكن أن تشكل عائقا في إقامة حوار حقيقي، والهدف من بيان ذلك هو فهم الآخر فهما يسهل التواصل ومجادلته بالحق من خلال فكره ومعتقده.
وشكلت القضايا المتعلقة بعقيدة المسيحيين أهم المحاور التي حظيت باهتمام ودراسة المسيحيين أنفسهم()، إذ إن العقيدة المسيحية بالشكل الذي يعرضه المسيحيون تخالف بصراحة عددا من الحقائق العلمية والتاريخية، ولهذا اتجه الحوار الإسلامي المسيحي صوب إظهار انحرافات المسيحيين في عقيدتهم والرد عليها وإزالة التشويهات التي أدخلت عليها.
وسأعمل في هذا المقال على عرض نماذج من موضوعات العقيدة المسيحية التي أثارت جدلا في أروقة الحوار في مبحث أول، ثم أخصص المبحث الثاني لدراسة النقد الموجه لتلك الموضوعات.

المبحث الأول: موضوعات العقيدة المسيحية

إن عقيدة المسيحيين المستقاة من قانون الإيمان المسيحي الذي تمت صياغته من قبل المجامع الكنسية عبر محطات متعددة()،والتي شكلت موضوعات للحوار العقدي بين المسلمين والمسيحيين، ومن جملتها:
عقيدة المسيحيين في التثليث وتأليه المسيح.
عقيدة المسيحيين في التجسد والخطيئة الأصلية والصلب والفداء.
عقيدة المسيحيين في مريم العذراء عليها السلام.
عقيدة المسيحيين في غفران الكنيسة للخطايا.

المطلب الأول: عقيدة التثليث وتأليه المسيح

أولا: «عقيدة التثليث»

يؤمن المسيحيون بمختلف فرقهم بثالوث من الآلهة يضم الآب والابن والروح القدس، ويعتقدون أن الله جل جلاله هو أول هذا الثالوث، ويضفون الألوهية أيضا على المسيح عليه السلام فأصبح ثاني الآلهة، ثم قالوا بألوهية الروح القدس الذي ينزل على حوارييهم فيمتلئون به ويدركون ما لا يدركه بقية البشر().
ولما كانت المسيحية دينا سماويا منبثقا عن اليهودية، والوحدانية هي السمة البارزة للديانات السماوية، اجتهد المسيحيون في التوفيق بين التوحيد والقول بالتثليث فتوصلوا إلى القول بأن الله تعالى إله واحد في ثلاثة أقانيم()، وأوصدوا الباب أمام كل نقد أو اعتراض من خلال تصريحهم بأن ما يرتبط بالتثليث هي مسائل عقيدة لا مسائل فهم().
لذلك ظلت الكنيسة تؤكد على الدوام بأن العقل البشري عاجز تماما عن فهم سر هذا الثالوث الأقدس، والله يعرف عجز الإنسان عن اختراق حقل الألوهية، لهذا اخترق الله الستار الذي يخفيه عن الإنسان، ويحجبه عن حقيقته، وظهر على الأرض متخذا جسدا بشريا، حيث جاء به ليكشف للإنسان عن سره الحقيقي، بأنه إله واحد في ثلاثة أقانيم().
ويوضح القس بوطر سبب افتراق المسيحية القائلة بالتثليث عن اليهودية التي ظلت متمسكة بالوحدانية، مبينا أن الله جل وعلا لما خلق العالم وتوج خليقته بالإنسان لبث حينا من الدهر لا يعلن سوى ما يختص بوحدانيته، مع تلميح أسفار التوراة إلى الأقنومين الثاني والثالث، حيث عبرت عن المسيح عليه السلام «بكلمة الله» وعن الروح القدس «بالروح»().

تحميل العدد السادس من مجلة ذخائر

ثانيا: تأليه المسيح عليه السلام:

يعتقد المؤمنون من المسيحيين بأن المسيح عليه السلام هو ابن لله تعالى بالمعنى الحقيقي، لأنه ولد من الآب، وهو بهذه الصفة إله حقيقي، مساو للآب في جوهر الألوهية. وتضم الأناجيل المسيحية العديد من الآيات التي تسند القول ببنوة المسيح وتدعمها:
جاء في إنجيل متى أن المسيح عليه السلام سأل تلاميذه قائلا: «ومن أنا في رأيكم أنتم؟ فأجاب سمعان بطرس: أنت المسيح ابن الله الحي، فقال له يسوع: هنيئا لك يا يسوع بن نونا، ما كشف لك هذه الحقيقة أحد من البشر، بل أبي الذي في السماوات»(). وينسب الإنجيل نفسه إلى الله تعالى قوله: «هذا هو ابني الحبيب الذي به رضيت»(). وورد في إنجيل يوحنا: «والكلمة صار بشرا وعاش بيننا، فرأينا مجده مجدا يفيض بالنعمة والحق، ناله من الآب كابن له أوحد»().
ويؤكد المسيحيون على أن بنوة المسيح عيسى لله تعالى لا يقصد بها الولادة الطبيعية الذاتية من الله، كما لا يقصد بها ما يقال عادة عن المؤمنين أنهم أبناء الله، وإنما هي نسبة متميزة تكشف عمق المحبة السرية التي توجد بين الله تعالى والمسيح عليه السلام().
ويرى البعض أن بنوة المسيح عليه السلام لله تعالى التي وردت كثيرا في الأناجيل يراد بها المعنى المجازي الذي يعتبر فيه كل البشر أبناء لله تعالى من حيث رعايته لهم ورزقه إياهم ورأفته بهم(). ومما يعضدون به هذا التفسير ما جاء على لسان المسيح عليه السلام نفسه عندما خاطب البشر بأنهم أبناء الله قائلا: «هنيئا لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون»(). وقوله: «أحبوا أعداءكم وصلوا لأجل الذين يضطهدونكم فتكونوا أبناء أبيكم الذي في السماوات»(). وقوله: «إياكم أن تعملوا الخير أمام الناس ليشاهدوكم، وإلا فلا أجر لكم عند أبيكم الذي في السماوات»().

المطلب الثاني: عقيدة الصلب والفداء

ينص قانون الإيمان المسيحي على أن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس، يسوع المسيح، قد صار جسدا لأجل بني الإنسان، فاتخذ طبيعة البشر، أي أخذ جسدا حقيقيا يشبهنا في كل شيء، وهو العمل السامي الذي كشف الله فيه عن ذاته الحقيقية على الأرض، حيث اتحد اللاهوت مع الناسوت، دون أن يفقده ذلك شيئا من جوهره، وسبب هذا التجسد رغبة المسيح في أن يقدم نفسه وسيطا أمام أبيه لأجل خلاص البشر، ولأجل هدم أعمال الشيطان، ومعنى خلاص البشر هو تخليص الإنسان من الخطيئة الأصلية التي سببها آدم أبو البشر، ليظهر الإنسان، وليصالحه نهائيا مع الله تعالى().
وأمام هذا كله شعر الإنسان عبر التاريخ بحاجته إلى الفداء ليتصالح مع الله تعالى، ولكن كيف يستطيع الإنسان أن يحقق هذا الفداء أمام الله تعالى بذاته ما دام هو المخطئ؟ وهنا أخذ الله تعالى، كما يزعمون، زمام المبادرة، وقرر أن يمد الإنسان بيد الخلاص، فوعده بمجيء الفادي المخلص، فأرسل ابنه الأوحد يسوع المسيح، وقبل هذا الابن أن يقدم نفسه فدية لخلاص الإنسان().
وأساس هذا الأمر عند المسيحيين أن من صفات الله تعالى العدل والرحمة، وبمقتضى صفة العدل كان على الله أن يعاقب ذرية آدم عليه السلام بسبب الخطيئة التي ارتكبها أبوهم وآلت إلى طرده من الجنة، فاستحق هو وأبناؤه البعد عن الله بسببها، وبمقتضى صفة الرحمة كان على الله تعالى أن يغفر سيئات البشر، ولم يكن هناك من سبيل للجمع بين العدل والرحمة إلا بتوسط ابن الله ووحيده وقبوله أن يظهر في شكل إنسان وأن يعيش كما يعيش الإنسان ثم يصلب ظلما ليكفر عن خطيئة البشر(). وقد وردت في العهد الجديد عدة نصوص تؤصل لهذا الأساس العقدي، منها:
«لأن ابن الإنسان جاء لا ليخدمه الناس، بل ليخدمهم ويفدي بحياته كثيرا منهم»().
«والله أرسل ابنه إلى العالم لا ليدين العالم، بل ليخلص به العالم»().
«فهم [أي البشر] كلهم خطئوا وحرموا مجد الله، ولكن الله بررهم مجانا بنعمته بالمسيح يسوع الذي افتداهم، والذي جعله الله كفارة في دمه لكل من يؤمن به، والله فعل ذلك ليظهر بره، فإذا كان تغاضى بصبره عن الخطايا الماضية، فهو في الزمن الحاضر يظهر بره ليكون بارا ويبرر من يؤمن بيسوع»().
بعد ذلك تعرض المسيحية قضية الصلب، والآلام التي لحقت بالمسيح فداء لخطايا البشرية، فاتحا بذلك عهدا جديدا بين الله تعالى وبين البشرية، ولأجل أن ينال الإنسان، كل إنسان صحبة حميمية بينه وبين الله تعالى، ويصبح طاهرا من الخطيئة الأصلية التي يحملها، ولأجل خلاصه، وجب عليه أن يؤمن بالمسيح إلها وابنا للإله ومخلصا وفاديا().
وهكذا فتح المسيح عليه السلام بكفارته وفدائه الطوعي باب عفو الله من جديد أمام الناس، بعد أن كان مقفلا منذ سقوط أبوينا في بدء الزمان وحتى ظهور المسيح وقيامته من بين الأموات؛ جاء المسيح عليه السلام ليدعو الجنس البشري إلى الاتصال والرجوع من جديد إلى حظيرة الخالق عن طريق الإيمان الصادق العميق بالابن وفدائه الأوحد().
وبناء على هذا الأساس أيضا صارت الكنيسة المسيحية تزعم مرارا أنها المخزن الوحيد للحقيقة الصادقة والخلاص الإلهي، من أجل ذلك تواترت بين المسيحيين عدة مقولات من قبيل «لا خلاص إلا داخل الكنيسة»، ومقولة «لا يمكن أن يكون الله أباك حتى تكون الكنيسة أمك»().

المطلب الثالث: عقيدة المسيحيين في مريم العذراء عليها السلام

دخلت هذه النقطة إلى قانون الإيمان المسيحي في مجمع أفسس عام 431م، حيث جاء في بيان المجمع حولها ما يلي:» نعظمك يا أم النور الحقيقي، ونمجدك أيتها العذراء القديسة، لأنك ولدت لنا مخلص العالم كله، أتى وخلص نفوسنا»().
إلا أن المسيحيين منقسمون على أنفسهم في تحديد طبيعة مريم العذراء عليها السلام، فالبعض منهم قال بألوهيتها، وذهب فريق ثان إلى أن مريم هي والدة المسيح الإنسان، وليست أما لعيسى الإله، بينما نجد عند اليعاقبة القول بأن مريم عليها السلام هي بحق والدة الإله().
وجاء في تصريح للكنيسة الكاثوليكية ما يلي: «كما أن المسيح لم يبق بشرا، كذلك مريم أمه لم تبق من النساء، بل انقلبت إلى إلهة»().
إلا أن البعض يرى أن القائلين بألوهية مريم العذراء عليها السلام هم فرقة شاذة عن المسيحية تتناقض في مبادئها مع الكتاب المقدس وتعاليم الرسل والآباء، وأطلق على مؤلهي مريم هؤلاء اسم «المريميين»، غير أن مذهبهم سرعان ما ضعف رويدا رويدا إلى أن تلاشى().
وأطلق البعض على هذه الفرقة اسم البربرانية، وهم القائلون بأن المسيح عليه السلام وأمه كانا إلهين اثنين، على نحو ما حكاه القرآن في قوله تعالى: «وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله»()، ويبدو أن بعض أتباع هذه الفرقة كان موجودا عند نزول القرآن الكريم().
ويذكر الدكتور أحمد عمران أن القائلين بألوهية مريم عليها السلام كانوا من الحاضرين في مؤتمر نيقية، إلا أن عقيدتهم أدينت وجوبهت بالرفض().

المطلب الرابع: عقيدة المسيحيين في غفران الكنيسة للخطايا

أشار قانون الإيمان المسيحي إلى مسألة غفران الكنيسة للذنوب والخطايا بعبارة: «نعترف بمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا»؛ أي يجب على كل مسيحي أن يعتقد بأنه لا سبيل إلى دخول الحياة الأبدية إلا إذا غفرت ذنوبه، وأول سبيل لمغفرة ذنوبه وخطاياه هو الإقرار والاعتراف بها أمام القسيس، هذا الأخير ومن يعلوه من أصحاب الرتب الكنسية هم وحدهم من يملكون قبول التوبة ومسح السيئات والعفو عن الإنسان إذا اعترف لهم بها().
وفي هذا الصدد تقرر في مجمع روما الذي عقد في سنة 1225م أن الكنيسة البابوية تملك الغفران وتمنحه لمن تشاء()، وقبل ذلك تقرر في المجمع المسكوني الثاني عشر المنعقد في سنة 1215م أن يقوم جميع المؤمنين من الجنسين بعد بلوغهم من العمر ما يسمح لهم بالإدراك، طوعا وبما لا يقل عن مرة واحدة في السنة، بالاعتراف بخطاياهم أمام كهنتهم وتنفيذ الكفارة المفروضة عليهم بقدر المستطاع().
وتأسيسا على ذلك فإن القساوسة ورجال الدين في المسيحية يتمتعون بسلطات واسعة تخولهم قيادة المسيحيين وإرشادهم باسم المسيح، فمن أيديهم، يقول أحد مؤرخي المسيحية، تتلقى حياة الطهر عن طريق التعميد، وهم الذين يقدمون الخبز المقدس في العشاء الرباني، وهم الذين يربون المؤمنين بالدين المسيحي ليصبحوا أبناء الله().
هذه بإجمال هي عقيدة المسيحيين في جل أنحاء العالم، مع وجود اختلافات جوهرية بين فرقهم في بعض النقاط التي عرضت، إلا أن الإطار العام لعقائدهم لا يخرج عما ذكر.

المبحث الثاني: مناقشة المسلمين لعقائد المسيحيين

إن الرد على الأسس الاعتقادية عند المسيحيين فكرة فكرة وبندا بندا ليس بالأمر الهين، لأن ذلك يدخل الباحث في متاهات جدلية لا حدود لها، لذا سيكون الرد متوجها إلى هذه الأسس بشكل إجمالي مقتصرا على ما يلي:

المطلب الأول: نقض عقيدة المسيحيين بالعقل والمنطق

إن عقيدة التثليث القائلة بألوهية الأب والابن والروح القدس تقوم على مغالطات كثيرة، كما أنها تعد منافية لطائفة من البدهيات العقلية المسلمة، ويتضح ذلك وفق ما يلي():
ليس من المستطاع أن يكون ثم كائنان غير محدودين في آن واحد، لأن انتفاء المحدودية عن أحدهما يفيد أن يملأ الكون حتى يشغله كلية، فلا يدع مجالا للكائن الآخر، فإذا كان الأقنوم في الثالوث هو الإله المطلق غير المحدود، فإنه لا يمكن أن يكون الأقنوم الثاني كذلك. وإلا كان ثم إلهان مطلقان غير محدودين، وهذا أمر غير ممكن.
أما القول باتحاد الأقنومين الأول والثاني فهو أمر ينبغي أن ينفي الألوهية عن كليهما، لأن هذا الاتحاد يغير الحالة التي كان عليها كل منهما من قبل، فيصبح أكثر مما كان أو أقل، وهذا ينفي عنه عدم المحدودية، إما في حالته الأولى وإما في حالته الثانية، ومن تم يبطل أن يكون إلها.
لا يتأتى أن يشغل كائنان اثنان حيز واحد منهما، بل لابد أن يتراجع أحدهما ليفسح المجال للآخر، بيد أنه لن يجد حيزا يتراجع إليه ما لم ينقطع عن أن يكون حالا في كل مكان، أي ما لم يكف عن أن يكون إلها.
ليس يتسنى للشيء الصغير أن يحتوي الشيء الكبير، ولهذا فليس من المتيسر أن يحتوي الجسد المحدود روحا غير محدودة أو علما غير محدود أو قدرة غير محدودة.

المطلب الثاني: عقيدة المسيحية صيغت من قبل المجامع الكنسية

تاريخيا لم يعرف المسيحيون عقيدة التثليث إلا في مؤتمر نيقية لسنة 325م، فقد كانوا قبل هذا التاريخ مختلفين على أمرهم، منهم من كان على التوحيد يؤمن به ويدعو إليه وينكر ألوهية المسيح عليه السلام وعقيدة التثليث، ويتهم الرسول بولس بتحريف دين المسيح عليه السلام وإخراجه من التوحيد إلى الوثنية، بعدما عجز عن القضاء عليه بالسيف والسلطان().
أما الفريق الآخر فهم أتباع بولس والمؤمنون بدعوته، وهم الذين فرضت عقيدتهم بدءا من مجمع نيقية، الذي تم فيه إقرار فكرة التثليث لتصبح معتقدا معترفا به، ثم جاء بعده مجمع القسطنطينية عام 431م للبث في مجموعة من القضايا الأخرى من قبيل تأليه مريم العذراء وعبادة المسيح كذات إلهية مستقلة().
كل هذا يبين بوضوح تام أن العقيدة المسيحية الحالية إنما صيغت عبر مراحل زمنية معينة، تطورت تبعا للتأثر بالبيئة التي عاشها أصحاب المجامع الأولى، الذين صاغوا هذه العقائد وفق ما حملوا من عقائد أقوامهم قبل دخولهم في المسيحية().
ويؤكد أحد الكتاب المسيحيين أن عقيدة المسيحيين قد صيغت من قبل المجامع الكنسية التي كان يرعاها القياصرة الرومان، واللافت للانتباه حقا أن أول هذه المجامع وأشهرها، مجمع نيقية لسنة 325م، جاء انعقاده بمبادرة من الإمبراطور قسطنطين الذي كان لا يزال وقتئذ على ديانته الرومانية الوثنية، وأرغم إمبراطور روما أساقفة المجمع على اعتماد عقيدة لم تكن موضع اتفاقهم، كما لم يستشر بابا روما «سلفستر الأول» بصددها، وصودرت في المجمع ذاته آراء الموحدين من أتباع آريوس وحكم على العديد منهم بالموت أو النفي().
وتشير بعض الإحصاءات المرتبطة بهذا المجمع أن عدد من حضر من القساوسة يزيد عن 2048 أسقفا، إلا أنه بعد احتدام الصراع بين المجتمعين منع الإمبراطور الموحدين من إتمام أعمال المجمع، وبقي أنصار عقيدة التثليث وعددهم 318، وهم الذين صادقوا على قرار هذا المجمع، وعندما حاول البعض منهم الاعتراض على بعض عبارات القرار ووجهوا بالتهديد بالنفي والقتل().
ومما يثبت أن القول بالتثليث وبألوهية المسيح عليه السلام وغيرها من الأمور طارئ على عقيدة المسيحيين وجود طوائف من الموحدين على مر التاريخ لا يزال لها امتداد إلى اليوم؛ فقد بدأت المسيحية الحقيقية التي جاء بها المسيح عليه السلام بالاعتقاد بإله واحد لا شريك له، ولم تكن المسيحية المثلثة المنتشرة اليوم معروفة خلال حياة المسيح عليه السلام ولا بين حوارييه الاثني عشر الذين آمنوا بالله ربا وبالمسيح عليه السلام نبيا ورسولا().
ولقد خلف الحواريون، الذين ساروا على منهج المسيح عليه السلام وعقيدته دون تحريف أو تبديل، عددا كبيرا من العلماء والقديسين التزموا التقوى والورع، وحافظوا على صفاء عقيدة المسيح، ولم ينجرفوا وراء التيار الذي نشأت في المسيحية بعد دخول شاوول اليهودي الذي تسمى باسم بولس الرسول().
حارب هؤلاء العلماء القديسون ذلك التيار ودعوا إلى المحافظة على تعاليم المسيح الصحيحة، إلا أن استعانة بولس بالسلطة السياسية وقوة الدولة ساعده على نشر مذهبه وأفكاره في طبيعة المسيح، ومع ذلك بقيت آراء وعقيدة الموحدين، وإن كانت محصورة في إطار ضيق بسبب الاضطهاد والتشريد الذي تعرضوا له، إلا أنهم كانوا يحاولون في كل مناسبة مواجهة الكنيسة بعقيدتهم التوحيدية، وتسمي الكنيسة هؤلاء الموحدين وأتباعهم بالهراطقة والمجدفين وأصحاب البدع().
وعلى مر تاريخ المسيحية الطويل لم تخل فترة من وجود طائفة الموحدين، ولا يزال وجودهم مستمرا إلى وقتنا الحاضر.

المطلب الثالث: الجذور التاريخية لعقائد المسيحيين

تشير العديد من الدراسات إلى أن عقيدة التثليث التي تم فرضها في مؤتمر نيقية لها جذور وثنية، فهي ليست من مبتكرات المسيحيين وإنما ترجع جذورها إلى أقدم العصور التاريخية، حيث ثبت عند أكثر الأمم البائدة الوثنية القول باللاهوت الثالوثي؛ أي الإله ذي الأقانيم الثلاثة().
ففي الديانة الهندوسية ساد الاعتقاد بوجود إله خالق هو «براهما» الذي كان قبل الوجود، فلما خلق العالم انبثق منه إله ثان «فشنو» لرعاية هذا العالم وحفظ الخلق فيه، ولما كان مآل المخلوقات إلى الزوال والفناء أنيط ذلك بإله ثالث انبثق من البراهما سمي «شيفا»، وتشكل هذه الآلهة الثلاث الثالوث المقدس عند الهندوس().
وآمن المصريون القدامى بوجود ثالوث مقدس مكون من: أوزيريس الآب، وهوروس الابن، وإيزيس الأم، لذلك يؤكد الدكتور أحمد شلبي أن المصريين كانوا من أسبق الشعوب إلى اعتناق المسيحية، لما وجدوا فيها من صدى لعقيدتهم في التثليث والتضحية والفداء().
وعند أتباع البوذية إيمان بإله مثلث الأقانيم يسمونه «الإله فو»، ويرددون اسمه عند ذكرهم له قائلين: «الثالوث النقي فو»().
ويتوجه ملوك الصينيين وأمراء مقاطعاتهم في ديانتهم القومية إلى إله السماء أو الإله الأعظم بالعبادة والقرابين، في حين يقدس عامة الشعب الصيني إله الأرض وأرواح الأجداد ويقدمون إليهما القرابين().
ولم يكن يسوع المسيح الذي اعتقد المسيحيون بأنه ابن الإله الذي تجسد وقدم نفسه للموت على الصليب افتداء لخطايا البشرية، الابن الوحيد للإله الذي جاد بحياته من أجل البشر، بل هناك كثيرون من أمثاله ممن ظهروا في التاريخ، وفي مختلف الأمم والشعوب، حيث يوجد العديد ممن ألحقت بهم فكرة البنوة للإله فتجسدوا وماتوا لأجل البشر().
ففي الديانات الإغريقية شكل الإله «أوزيريس» المخلص الذي مات من أجل البشرية، فكانوا يأكلون من جسده الميثولوجي ويشربون من دمه في طقس القربان المقدس، وقد تبنى المسيحيون هذا الطقس من الثقافة الإغريقية واشتقوها من قصة العشاء الأخير لعيسى عليه السلام مع الحواريين المعروفة في الأسفار الثلاثة الأولى من الكتاب المقدس().
ونجد لدى الفرس معبودا للفداء يدعى «مثرا» صلب في بلاد فارس في القرن السادس قبل الميلاد تكفيرا عن خطايا وآثام البشر، وكان له في بلاده شأن عظيم، وهناك تشابه كبير بين سيرته وسيرة المسيح عند المسيحيين، وكان سكان آسيا الصغرى يعبدون قديما إلها يسمى «هورس»، وكان يدعى بالمخلص والفادي وإله الحياة والمولود الوحيد، قبض عليه الكلدانيون وصلبوه كي يزداد ألما ثم قتلوه، فكان موته لأجل خلاص شعبه().
وهكذا يتبين من كل ما سبق أن المسيحيين قد اقتبسوا تفاصيل عقيدتهم من أصول مختلفة، حتى صار الدين المسيحي، حسب تعبير الدكتور أحمد شلبي، كثوب مهلهل مكون من مجموعة من الرقاع().

المطلب الرابع: مناقشة عقيدة المسيحيين انطلاقا من كتبهم المقدسة

إذا كانت عقيدة المسيحيين حسب ما جاء في قانون الإيمان المسيحي تنص على ألوهية المسيح عليه السلام وبنوته للآب، فإن المتتبع للكتاب المقدس، بعهديه القديم والجديد، يكتشف قلة النصوص التي تؤصل لهذه العقيدة، في حين أن النصوص المؤكدة على التوحيد وعلى بشرية ونبوة المسيح عليه السلام هي الغالبة، وهذا ما دفع البعض إلى الاستفسار عن سبب سكوت المسيح عليه السلام عن بيان مسألة التثليث وألوهيته إن كانت أساس الدين المسيحي وركنه الركين(). وسأقتصر على مناقشة ما يدحض القول بالتثليث من خلال تتبع دلالة النصوص المقدسة على التوحيد.

أولا: التوحيد في العهد القديم:

إن المتتبع لما ورد في العهد القديم بكل أسفاره يستنتج مباشرة أن التوحيد فيه سمة واضحة المعالم تماما، والأمثلة على ذلك كثيرة جدا، منها:
ـــ أول الوصايا العشر التي أمر الله تعالى بها موسى عليه السلام هي الوصية بتوحيد الله تعالى، وعدم عبادة غيره، حيث ورد فيها: «أنا الرب إلهك، الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبودية، لا يكن لك آلهة سواي، لا تصنع لك تمثالا منحوتا، ولا صورة شيء مما في السماء من فوق، ولا مما في الأرض من تحت، ولا مما في المياه من تحت الأرض، لا تسجد لها ولا تعبدها، لأني أنا الرب إلهك إله غيور»().
«اسمعوا يا بني إسرائيل: الرب إلهنا رب واحد، فأحبوا الرب إلهكم بكل قلوبكم وكل نفوسكم وكل قدرتكم، ولتكن هذه الكلمات التي أنا آمركم بها اليوم في قلوبكم، افرضوها على بنيكم وكلموهم بها إذا جلستم في بيوتكم، وإذا مشيتم في الطريق، وإذا نمتم، وإذا قمتم»().
«انظروا الآن، أنا هو ولا إله يقف أمامي، أميت وأحيي وأجرح وأشفي، ولا من ينقذ من يدي»().
«لتعلم جميع شعوب الأرض أن الرب هو الإله، ولا أحد سواه»().
«لأنكم علمتم وآمنتم بي وفهمتم أني أنا هو، ما كان من قبلي إله، ولن يكون من بعدي، فأنا أنا الرب، ولا مخلص غيري»().
هذه نماذج من عقيدة التوحيد المنتشرة في أسفار العهد القديم، وكلها تحث على الإيمان والاعتقاد بإله واحد، ولا شريك معه، ولا شبيه له، وهو الخالق للسماوات والأرض.

ثانيا: التوحيد في العهد الجديد:

سار العهد الجديد على نفس المنهج الذي سار عليه العهد القديم في عرض قضية وحدانية الله تعالى، ويؤكد هذا قول المسيح عليه السلام في الإنجيل: «لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء، ما جئت لأبطل، بل لأكمل»()، ونجد أمثلة عديدة لعقيدة التوحيد في العهد الجديد، منها:
– قول المسيح عليه السلام للشيطان عندما طلب منه أن يسجد له لقاء أن يمنحه ممالك الدنيا كلها ومجدها: «ابتعد عني يا شيطان، لأن الكتاب يقول: للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد»().
– وقوله عليه السلام مجيبا أحد الكتبة في الهيكل: «اسمع يا إسرائيل، الرب إلهنا هو الرب الأحد، فأحب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل فكرك وكل قدرتك»()، فأجابه الكاتب السائل: «أحسنت يا معلم، فأنت على حق في قولك إن الله واحد ولا إله سواه»().
– «والحياة الأبدية هي أن يعرفوك أنت الإله الحق وحدك، ويعرفوا يسوع المسيح الذي أرسلته»().
وفضلا عن ذلك فإننا عندما نستعرض نصوص الأناجيل التي تذكر سيرة المسيح عليه السلام، نجد هذا الأخير يتحدث بوضوح عن رب آخر سواه، ولا يقبل أن تكون آلهة أعلى منه وأجل وأعظم، ثم إن المسيح عليه السلام يلتمس الكمال من ذلك الإله، لأنه يفتقر إلى صفات الكمال البارزة واللامحدودة، والتي لا تنسب إلا إلى الله الكائن الأعلى، كما تخبرنا النصوص ذاتها أن المسيح عليه السلام كان دائم الصلاة والعبادة والصوم والخشوع لله الأحد، فهل يعقل أنه كان يصلي ويصوم ويتعبد لذاته إذا كان هو نفسه الله تعالى، أو كان أقنوما من الأقانيم الثلاثة؟().

المطلب الخامس: مناقشة صحة الكتب المقدسة عند المسيحيين

إن قانون الإيمان المسيحي الصادر عن مجمع نيقية عام 325 للميلاد قد جمع على شكل عبارات مبتورة من الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد، ولكن عند عرض مصدر كل عبارة فيه من الكتاب المقدس يتضح أن المجامع الكنسية التي صاغت هذا القانون عبر فترات زمنية متلاحقة كتبت أولا معاني وأفكار هذا القانون، ثم بحثت له عن عبارات موجودة في الكتاب المقدس، غير أن هذه العبارات تم بترها بترا من الكتاب المقدس، دون الالتفات إلى تخريب المعاني الأصلية الحقيقية التي سيقت من أجلها في المعنى الأصلي المقصود في الكتاب المقدس نفسه، وفي هذا تأكيد على التلفيق والإقحام الذي تضمنه قانون الإيمان المسيحي وإثبات كونه دخيلا على المسيحية الأصلية().
وحتى لو وقع التسليم بأن عبارات قانون الإيمان المسيحي مأخوذة من الكتاب المقدس من دون تغيير للمعاني الأصلية في سياق الكتاب المقدس، فإن هذا يدفعنا إلى ضرورة دراسة الكتاب المقدس نفسه وبخاصة العهد الجديد منه.
وفي هذا الصدد أورد الشيخ رحمة الله الهندي في كتابه القيم «إظهار الحق» مجموعة كبيرة من أقوال كبار علماء المسيحية تبين كلها وقوع التحريف إما بالتبديل أو الزيادة أو النقصان في كل أسفار الكتاب المقدس عند المسيحيين بعهديه القديم والجديد، ومن أمثلة ذلك():
إجماع قدماء المسيحية كافة، وعددا غير محصور من المتأخرين، على أن إنجيل متى كان باللغة العبرية، ثم فقد بسبب تحريف الفرق المسيحية، والموجود منه اليوم ترجمته، ولا وجود عندهم لإسناد هذه الترجمة ولا اسم القائم بها.
وفيما يخص إنجيلي مرقس ولوقا صرح جيروم في إحدى مكتوباته أن بعض القدامى كانوا يشكون في بعض الآيات من الباب الثاني والعشرين من إنجيل لوقا، والبعض الآخر منهم يشك في البابين الأولين من هذا الإنجيل، وشكك علماء مسيحيون آخرون في صحة الباب الأخير من إنجيل مرقس. وذكر المحقق «نورتن» أن في إنجيل مرقس عبارة قابلة للتحقيق، وهي من الآية التاسعة إلى آخر الباب الأخير().
كما أنه لم يثبت بالسند الكامل أن الإنجيل المنسوب إلى يوحنا من تصنيفه، وأنكر العديد من علماء المسيحية في القرن الثاني نسبة الإنجيل الرابع إلى يوحنا مع وجود بعض تلامذة يوحنا الحواري، وذهب «كاثوليك هرلد»إلى أن كاتب إنجيل يوحنا هو طالب من طلبة مدرسة الإسكندرية.
أما أسفار الرسائل مثل الرسالة العبرانية والرسالة الثانية لبطرس والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ورسالة يعقوب ورسالة يهوذا ومشاهدات يوحنا فإن إسنادها إلى كاتبيها من الحواريين بلا حجة أيضا، وقد كانت إلى حدود سنة 363م مشكوكا فيها، كما أن بعض الفقرات منها مردودة وغلط إلى يومنا هذا عند جمهور المحققين، ومن ذلك تصريح «وارد» الكاثوليكي بأن أعظم علماء البروتستانت أخرجوا الرسائل من الكتب المقدسة باعتبار أنها كاذبة، خاصة الرسالة العبرانية ورسالة يعقوب والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ورسالة يهوذا ومشاهدات يوحنا.
وفضلا عما سبق فإن علماء المسيحية ومحققيهم قد سلموا بوجود الكثير من الأغلاط والاختلافات التي تكون في كثير من الأحيان فاحشة بين مختلف نسخ الكتاب المقدس أو بين الأسفار في النسخة الواحدة، فبالنسبة للعهد القديم مثلا توجد ثلاث نسخ معتمدة عند أهل الكتاب عامة، وهي: النسخة العبرانية المعتمدة من قبل اليهود وجمهور علماء البروتستانت، والنسخة اليونانية وهي المعتمدة اليوم من قبل الكنائس اليونانية وكنائس المشرق، أما النسخة الثالثة فهي النسخة السامرية وهي المعتبرة عند السامريين، وبين هذه النسخ الثلاث فروق كبيرة واختلافات فاحشة يصعب التقريب بينها، وذلك بشهادة كثير من علماء المسيحية().
نستخلص من كل ما سبق أن الكتاب المقدس، وخاصة الإنجيل، قد تعرض للتحريف، ومنه فإن العقيدة المسيحية المستمدة من هذا الكتاب قائمة على أسس هشة، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون العقيدة التي جاء بها المسيح عليه السلام ودعا إليها قومه.
ولعل فيما سبق إيراده من بعض نقاشات علماء المسلمين حول عقائد المسيحيين ما يثبت سعة اطلاعهم وعلمهم بدقائق الديانة المسيحية، وهذا ما يفند دعوى جهل المسلمين بعقيدة المسيحيين، ومن ذلك قول أحدهم: «إن المسلمين ليسوا فقط لا يعرفون شيئا عن عقيدة المسيحيين ولكنهم حتى لا يحاولون أن يعرفوها»().

خاتمة:

إن المعرفة العلمية لمرتكزات العقيدة المسيحية تبين المسار والتوجه الصحيح للحوار الإسلامي المسيحي، الذي ينبغي أن يسعى إلى البحث عن المشتركات الممكنة من إقامة هذا الحوار على أسس التفاهم والتعايش بدل المواجهة والتطاحن، ثم مناقشة المسائل الخلافية مناقشة علمية أساسها البحث عن الصواب ومنطلقها الأساس المبدأ القرآني المشار إليه في الآية الكريمة: « لا إكراه في الدين.»

لائحة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
ـــــ ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، بيروت، د.ط.، 1992م/1412ه.
ـــــ أحمد شلبي، مقارنة الأديان؛ المسيحية، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، ط:8، 1984م.
ـــــ أحمد عمران، القرآن والمسيحية في الميزان، الدار الإسلامية، بيروت، ط:1، 1995م/1416هـ.
ـــــ أديب قوندراق، المسيح في القرآن ووحدة الهدف، دار الفرقد، دمشق، ط:1، 2001م.
ـــــ أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، ترجمة خلف محمد جراد، سلسلة عالم المعرفة، العدد:215، الكويت، نونبر 1996م.
ـــــ بسام عجك، الحوار الإسلامي المسيحي، دار قتيبة، بيروت، ط:2، 2008م/1429هـ.
ـــــ حسن خالد، موقف الإسلام من الوثنية واليهودية والنصرانية، معهد الإنماء العربي، بيروت، ط:1، 1986م.
ـــــ رحمة الله بن خليل الرحمان الهندي، إظهار الحق، دار ابن الهيثم، القاهرة، ط:1، 2005م/1426هـ.
ـــــ سعيد رستم، التوحيد في الأناجيل الأربعة وفي رسائل القديسين بولس ويوحنا، دار الأوائل بدمشق، ط:1، 2002م.
ـــــ عبد المنعم جبري، المسيح عند اليهود والنصارى والمسلمين وحقيقة الثالوث، دار الأوائل، دمشق، ط:1، 2005م.
عصام الدين حنفي ناصف، المسيح في مفهوم معاصر، دار الطليعة، بيروت، ط:1، 1979م.
ـــــ غسان سليم سالم، محاور الالتقاء ومحاور الافتراق بين المسيحية والإسلام، دار الطليعة، بيروت، ط:1، 2004م.
– محمد الزين فاروق، المسيحية والإسلام والاستشراق، دار الفكر، دمشق، ط:3، 2003م/1424هـ.
محمد الصادقي، عقائدنا، دار العالم الإسلامي، بيروت، ط:2، 1978م.
ـــــ محمد ضياء الرحمان الأعظمي، دراسات في اليهودية والمسيحية وأديان الهند، مكتبة الرشد، الرياض، ط:2، 2003م/1424ه.
ـــــ محمد عطا الرحيم، عيسى يبشر بالإسلام، ترجمة فهمي شما، جمعية عمال المطابع القانونية، عمان، الأردن، ط:1، 1986.
ـــــ منير خوام، المسيح في الفكر الإسلامي الحديث وفي المسيحية، مؤسسة خليفة للطباعة، بيروت، 1983.
ـــــ نصري سلهب، لقاء المسيحية والإسلام، دار الكتاب العربي، بيروت، 1970م.
ـــــ وليم الشريف، المسيحية، الإسلام، والنقد العلماني، دار الطليعة، بيروت، ط:1، 2000.
ـــــ يان دوبرانتشينسكي، أوروبا المسيحية، ترجمة كبرو لحدو، دار الحصاد، دمشق، ط:1، 2007م.
∗∗∗∗∗∗∗∗∗
– الكتاب المقدس؛ العهد القديم، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، لبنان، الإصدار الثاني، 1995م.
ـــــ الإنجيل؛ العهد الجديد، جمعية الكتاب المقدس في لبنان، ط:2، 1995م.
– Wilfred Cantwell Smith, Islam in Modern History, Princeton University Press, Princeton, New Jersey / Oxford University Press, London, 1957.

ChristianitydialogueIslamissuesالإسلامالعهد القديم والجديدالكنيسةالمسيحيةحوار