الاستشراق ومداخل بناء المشترك الإنساني
Orientalism: Approaches to Build the Common Good
د. عبد الفتاح صنيبي
دكتوراه في العقيدة والفكر الإسلامي – الجديدة – المغرب
ملخص:
تسعى الورقة العلمية إلى تأكيد الأهمية التي يكتسيها البحث في العلاقات الحضارية للإسهام في رتق ما انفتق من الروابط عبر التفاعل الإنساني المتبادل الممتد عبر التاريخ، رغم الحواجز المانعة المبثوثة في فكر الأطراف الحضارية وسلوكها وتصوراتها، وهو ما دفع بكثير من الدارسين للانكباب على بيان الجذور والأصول الباعثة على ذلك، غير أن جزءا منهم كرس الهوة بين الحضارات، وعلى رأسهم المستشرقين الذين استطاعوا مراكمة كمٍّ معرفي ملحوظ عن الحضارة الإسلامية، التي أُجبِر بعض مفكريها على التفاعل مع ما ينتجه الاستشراق دراسة ونقدا، بلغ الأمر ببعض المفكرين إلى اعتبار الدراسات الاستشراقية أحد العوائق المانعة لبناء حضارة إنسانية جامعة.
وإذا كان الأمر كذلك فإن الضرورة العلمية تستدعي التساؤل من جهة أخرى عن المساحة العلمية والمنهجية التي تجعل الدراسات الاسشتراقية مفتاحا لبناء المشترك الإنساني، وهذا ما سعت هاته الورقة إلى بحثه باقتراح بعض المداخل التي يمكن الاستناد إليها لبناء الوحدة الإنسانية عبر التفاعل مع الدراسات الاستشراقية، وقد اقتضت الضرورة المنهجية تقسيم الورقة إلى أربعة محاور يعالج كل واحد منهم أربع قضايا مركزية.
الكلمات المفتاحية: الاستشراق، المشترك الإنساني، العلاقات الحضارية، حضارة إنسانية.
Abstract:
This scientific paper seeks to emphasize the importance research in civilizational relations to contribute in repairing the spoilt relations through mutual human interaction that extends throughout history despite the barriers existing in thought, behaviours and perceptions of civilization poles. This pushes many scholars to embark on the causes of this civilization conflicts. However, the civilization gap has been widened by some of these scholars, namely the orientalists who managed to accumulate a huge amount of knowledge about the Islamic civilization. This has prompted Muslim scholars to interact with the writings of orientalism in terms of study and criticism. Some scholars considered that orientalist studies as one of the obstacles preventing the building of a global human civilization.
If this is the case, then, the scientific necessity tries to find out, on the other hand, the scientific and methodological space that makes oriental studies a key point to building humanity common good; the purport of this paper. It suggests some approaches that can be resorted to build human unity through interaction with oriental studies. The methodological necessity requires dividing of this paper into four parts, each addresses four central issues.
Keywords: Orientalism, common human, civilized relations, human civilization.
مقدمة:
إن المتتبع لمسار العلاقات الحضارية الإنسانية عبر تاريخها الطويل؛ يدرك حجم الأزمة التي أصابت هاته العلاقة والعوائق المتمترسة في وجه المحاولات الفكرية والمعرفية والعملية في بناء وحدة إنسانية مشتركة، غير أن المتأمل للساحة الفكرية يتضح له الوعي بهذه المعضلة، ذلك أن كثيرا من الأقلام الصادقة تسعى إلى فهم الظاهرة وفك شفراتها وإرساء مداخل قمينة لرأب الصدع.
وفي سياق البحث عن الحلول والتصورات نجد أن كثيرا من الدراسات قد تعرضت إلى الاستشراق باعتباره أحد أهم الحقول التي أسهمت بشكل أو آخر في واقع الإنسانية بما راكمه من معارف عبر دراسته المتواصلة لثقافة الآخر، حتى ارتبط علم الاستشراق في بعض جوانبه «بالعلاقات الإنسانية والثقافية بين الشرق والغرب»، لذا لا يمكن تجاوزه كإطار معرفي سابق وثابت ومساير، وهو ما دعا إدوارد سعيد إلى التشكيك «في قدرة أي مشروع فكري طامح في الغرب على تجاوز المؤسسة الاستشراقية والتراث الذي قدمته في التعرف على الشرق».
وإذا كان الأمر كذلك، فإن كثيرا من البحوث والدراسات العلمية في تعاطيها مع الإشكالات الاستشراقية قد توجهت بالنقد إلى ما أنتجه غافلة بذلك عن قضية غاية في الأهمية، تلك هي قضية البحث عن المساحة التي يمكن توظيفها في بناء العلاقات الحضارية.
وفي هذا السياق تأتي هذه الورقة البحثية لتسهم في مقاربة إشكال رئيسي، يتبدى في بيان الضرورة العلمية في تناول الاستشراق مراعاة لما يقتضيه الواقع المعاش بتلمس بعض المداخل الممكنة لبناء المشترك الإنساني.
وقد جاءت معالم هذه المقاربة في أربع قضايا رئيسة:
القضية الأولى: تتعلق بالتأسيس المفاهيمي للمقاربة.
القضية الثانية: ترتبط بجدل المعرفة والمصلحة في الدراسات الاستشراقية.
القضية الثالثة: تقوم على بيان مسوغات دراسة الاستشراق في سياق بناء المشترك الإنساني.
القضية الرابعة: تتأسس على رصد بعض مداخل بناء المشترك الإنساني.
المبحث الأول: مقاربة مفاهيمية
مفهوم المشترك الإنساني
يكاد يكون التحديد الاصطلاحي للمشترك شبه غائب في الأدبيات الفكرية التي تناولته كجزء من بحوثها وكتاباتها، إلا في إطار تناول المفردة في حالة التركيب الإضافي، وقد كان لعلماء اللغة النصيب في استعماله بهذه الصيغة في العديد من المصطلحات، كالمشترك اللساني واللغوي واللفظي، إلى أن اكتسب المفهوم حمولة أخرى بفعل التطور العلمي والمصطلحي، فأصبح يستعمل للدلالة على ما تجتمع فيه البشرية من أسس ومبادئ كونية من أجل العيش المشترك.
تحميل العدد السادس من مجلة ذخائر
ويعد راغب السرجاني من المفكرين الذين وظفوا مفهوم المشترك الإنساني في كتابه، إلا أنه لم يقف عند الدلالة اللغوية والاصطلاحية لهذا المفهوم، واكتفى باستعماله استعمالا عاما، مكنه من استخلاص العديد من المبادئ والقواعد بفعل قراءته للتاريخ واضطلاعه الثقافي الواسع. وأكد أهمية البحث عن» المشتركات الكثيرة التي تجمعنا مع إخواننا في الإنسانية، ونحتاج أن نتعارف على كل الحضارات والشعوب، ونحتاج أن نقرأ لكل المفكرين والفلاسفة من كل المدارس والمذاهب، ونحتاج أن نبحث عن نبلاء كل شعب، الذين يدركون المخاطر التي يقدم عليها العالم، ويعرفون آليات الحل وطرق النجاة، ويفقهون قيمة التعارف وأهميته».
غير أنه قد تمت الإشارة إلى مفهوم «المشترك الإنساني»، بشكل صريح وواضح عند محماد رفيع في كتابه، وهو من أهم الأعمال المنضبطة في المجال، التي تتغيا التأصيل الشرعي لما جاء في الخطاب القرآني وتطبيقاته النبوية، إذ عرف المشترك الإنساني بأنه: «تلك القيم الإنسانية الموجودة في جوهر كل الأديان والحضارات والمدارس الفكرية، القيم التي تلبي حاجيات الإنسان الفطرية من حيث هو إنسان، كونها قيما ومبادئ عابرة للخصوصيات الثقافية للأمم، وهي ما انغرس في فطرة الإنسانية من حب العدل وإنصاف المظلوم وبغض الظلم، وغيرها من مبادئ حقوق الإنسان، ومبادئ المروءة الإنسانية، التي تؤول في العمق إلى أثرة من علم النبوات والرسالات السابقة. فما فطر عليه الناس من قيم البر، يحتاج إلى من ينفض عنه ركام الجاهليات».
وإذ كان المشترك يعني التقاسم بالتساوي بين الأفراد والشعوب والحضارات، فإن هذا لا يلغي ظاهرة الاختلاف والتنوع، فلا معنى لمشترك دون وجود اختلاف لوجهات النظر، وغياب التنوع الذي يضفي على عملية البناء مشروعية الوجود، وفي عالم اليوم وحتى الماضي يمثل الاختلاف عنصرا أساسيا لا يمكن تصور تعاون بنّاء دون الإقرار به، فهو «ظاهرة محسوسة وتشهد بها سمات عديدة في الثقافة نفسها، أبرزها اللغة، والمعتقدات، والتاريخ، والتقاليد، والمنتجات المعرفية، والذوقية من علوم وآداب وفنون، وكذلك أنماط السلوك، وطرق التعبير إلى غير ذلك…»، والاختلاف والتنوع في هذه السمات الثقافية، لا يلغي الحق في العيش والكرامة والعدل… التي هي قيم كونية لا تتحقق إلا في ظل هذه السمات المتعددة.
وفي نفس الوقت فالملاحظ البسيط، يستطيع أن يدرك الحقيقة الواضحة التي تبين حجم الأشياء التي تشترك فيها الأمم والشعوب، وتشترك «في ما لا يكن حصره من مشتركات…ولكوننا جميعا ننتمي إلى الإنسانية فيقينا نحن نشترك في أضعاف أضعاف ما نختلف فيه»، مما يقتضي الغوص في عمق تلك المشتركات لإبرازها إلى الوجود بشكل يسمح بالحفاظ لكل بخصوصياته.
ومما لا يحتاج جدالا أن بناء المشترك الإنساني، أضحى أمرا ضروريا يرقى إلى مرتبة الفريضة، بما «هو ضمانٌ للأمان في بناء المعارف والمفاهيم الأصيلة النافعة للإنسانية، والتماسٌ للكمال فيما يجمع شتات الإنسان من مبادئ جامعة ومتكاملة، أرساها الوحي كتابا وسنة، نصا ومقصدا، تكوينا وتشريعا». لذلك يعتبر الاعتناء بتقارب الشعوب وتآلفها هما فرديا وجماعيا للإنسانية باعتبارها مخاطبة بالنص القرآني.
إن الحاجة ماسة في العالم المعاصر الذي يشهد متغيرات سريعة كثيرة، خاصة في دائرتي الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، لقراءة هذا المشترك قراءة سليمة بفكر منفتح ورؤية عالمية واسعة، كي يتم التغلب على سوء الفهم الموجود، والنوازع غير الصالحة والجراثيم العنصرية الفتاكة، لتمهيد الطريق أمام تعارف الشعوب وتفاعل الحضارات والتعاون على البر والتقوى. فلقد أصبح المشترك الإنساني «ضرورة ملحة للإنسانية أمام تنامي وقائع العنف واشتعال حروب الدمار وعمليات إفساد البيئة»، وهو ما يتحتم تجاوزه بالبعد عن جميع أنواع التعصب، والأحكام المسبقة التي تكرس واقع التفرقة والاختلاف بدل التوافق والائتلاف.
ويعد الاستشراق بقوة تأثيره وسطوة توجيهه للسياسات الغربية، نموذجا للآخر، إذ لا يتوقف أثره «عند حدود الأهداف المعرفية»، لذلك وجب استحضاره في عملية البناء الحضاري الإنساني، وتناوله ليس الغرض منه ذكر تفاصيله وجزئياته، أو الدخول في مساجلة معه أو محاكمته والبحث في نواياه، إنما معرفة ما يقوم منه مقام المدخل لبناء المشترك الإنساني، والأدوار المختلفة التي ينبغي أن يطلع بها بصورة عامة في إطار تعامله مع الثقافة والحضارة الإسلامية بمختلف تنوعاتها. وهذا بالضرورة يقتضي سوق أراء بعض المفكرين حول الاستشراق وماهيته وأهدافه وجدل المصلحة والمعرفة في بنياته ومسوغات الحديث عنه في سياق المشترك الإنساني.
مفهوم الاستشراق
الاستشراق في اللغة: مشتقة من مادة «شرق» يقال شرقت الشمس شرقا وشروقا إذا طلعت، وحين أضيف إلى هذه الأخيرة الألف والسين والتاء، صارت تعني طلب الشيء، أي: اسْتَشْرَق والتي تعني «طلب علوم أهل الشرق ولغاتهم…يقال لمن يعنى بذلك من علماء الفرنجة».
وفي الاصطلاح طرحت له العديد من التعريفات حسب زاوية النظر والرؤية والمقصد، تباينت بين موقف الرفض والقبول أو بينهما، ويصعب حصرها، إذ إن مفهوم الاستشراق لم يستقر على حد واحد لدى المفكرين. وهكذا رأى الوزان إلى أن الاستشراق «مصطلح أو مفهوم عام يطلق عادة على اتجاه فكري يُعنَى بدراسة الحياة الحضارية للأمم الشرقية بصفة عامة، ودراسة حضارة الإسلام والعرب بصفة خاصة»، ويرى أحمد سمايلوفتش أن «كلمة استشراق لا وجود لها في المعاجم العربية إلا بإعمال علم الاشتقاق في الوصول إلى معانيها».
وفي مقالة للسيد الشاهد يعرض السياق اللغوي والمدلولات المختلفة لكلمة استشراق والحقول المعرفية التي لها علاقة بالكلمة، ويرى أنه لا ينبغي الحديث عن الاستشراق خارج المفهوم المعنوي «فأصل كلمة الاستشراق ليس مستمدا من المدلول الجهوي بل من المدلول المعنوي لشروق الشمس التي هي مصدر العلم، وأن صفة مستشرق ينبغي أن تقتصر على من ليس شرقيا لأنها تصف حالة طلب لشيء غير متوفر في البيئة التي نشأ فيها الطالب»، ومن ثم فالاستشراق «يدل على الدراسات التي تتناول علوم الشرق بالبحث والدراسة».
في حين يرى صلاح الجابري أن الاستشراق يمكن تناوله من ثلاثة معان: الأول: جغرافي متعلق بموقع شروق الشمس، والمعنى الثاني: إيديولوجي لانطلاقه من النظرة الغربية للإنسان الشرقي المدعومة بالقيم الثقافية المؤثرة في نظرة الأشياء، والمعنى الثالث: عرقي ينطلق من الإحساس الغربي بالتفوق العرقي والحضاري تجاه الشرق الغارق في خرافيته القابع في الأطراف بالنظر إلى المركز.
إلا أن إدوارد سعيد ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ اعتبر الاستشراق أكبر من أن يسيج في إطاره الجغرافي، بل هو «مدرسة من مدارس التفسير تصادف أن كانت مادتها تتمثل في الشرق وحضاراته وشعوبه ومناطقه»، التي انصب اهتمامها به وبكل ثقافاته وعاداته، ذلك أن الشرق «جزء لا يتجزأ من الحضارة المادية والثقافية الأوربية والاستشراق يعبر عن هذا الجانب ويمثله ثقافيا، بل وفكريا باعتبار الاستشراق أسلوبا للخطاب، أي للتفكير والكلام تدعمه مؤسسات ومفردات وبحوث علمية، وصور مذاهب فكرية، بل وبيروقراطيات استعمارية وأساليب استعمارية».
فالاستشراق إذن، هو اشتغال بعلوم الشرق، وقد أطلق على المتخصصين في الثقافة الشرقية بحجة اكتشاف الآخر والاحتكاك به وبثقافته ولغاته وعاداته وعلومه، خاصة في المرحلة التي أصبحت فيها المنطقة الجغرافية المقصودة ترزح تحت نير التخلف والاستعباد وفي ذيل الحضارات، مستهلكة لا منتجة، بحيث كانت الفرصة مواتية لفرض الوصاية على تلك المناطق الجغرافية، سواء في مراحله المتقدمة والحالية، التي اتخذ فيها أشكالا جديدة ومتنوعة، وتوسع بشكل كبير.
ولم يكن الاستشراق في بدايته بقوته الحالية ولم تكن اهتماماته بمثل ما هي اليوم، لذلك فرق أحمد سمايلوفتش بين مرحلتين في الاستشراق، الأولى القديمة: حين نقل الاستشراق العلوم عن العرب وأرسى نهضته على دعائمها واشتد عوده على أسسها، والثانية الحديثة: حين أعاد الاستشراق صياغة ما أخذه عن العرب وأعاده إليهم بتأثير أكبر. لذلك يعتبر البعض أن الاستشراق مسلك من مسالك السيطرة على مقدرات الأمة، وهو ما يطرح جدل المعرفة والمصلحة لدى الدراسات الاستشراقية.
المبحث الثاني: جدل المعرفة والمصلحة في الدراسات الاستشراقية
لقد استطاع الاستشراق بفعل حيويته المعرفية أن يطور ويوسع مجالاته وأغراضه، ففي الزمن الأول كان في ظل جهل أهله وتطور مجاله، ليصبح اهتمامه أوسع أكثر من المرحلة الأولى. التي كان مقتصرا فيها على دراسة الإسلام وحضارته واللغة العربية وآدابها، ثم بعد ذلك اتسعت مجالاته لتشمل لغاته وأديانه وتقاليده. بل واتسعت قدرته للتأثير على منظومة العلاقات الحضارية الإنسانية بمختلف مكوناتها.
ذلك ما جعل بعض المفكرين ينظرون إلى الاستشراق كأداة لتحقيق الأهداف الغربية بغطاء علمي، لذلك اعتبره الغزالي بمثابة «كهانة جديدة تلبس مسوح العلم والرهبانية في البحث، وهي أبعد ما تكون عن بيئة العلم والتجرد، وجمهرة المستشرقين مستأجرين لإهانة الإسلام وتشويه محاسنه والافتراء عليه»، وأن اسم الاستشراق اسم «أطلقه غير الشرقيين على الدراسات المتعلقة بالشرقيين».
وإلى ذلك ذهب كثير من المستشرقين الذين لا يرون فيه إلا «حركة فكرية غربية مضادة للإسلام والمسلمين»، في كثير من المجالات وذلك بغية توفير الغطاء لتحقيق الأهداف السياسية، وقد اعتبرها الميداني في كتابه أنها جاءت كبديل للحروب الصليبية، بل الاستشراق عند الوزان جزء من «الحروب الصليبية الحديثة والتي اتخذت صيغة جديدة بأن صارت حربا فكرية بدلا من الحرب العسكرية»، وهو بذلك يحقق ما عجزت عنه الآلة العسكرية من أهداف.
ولقد تعددت أهداف الاستشراق وتنوعت، إلا أن الهدف الأساس الذي أجمع عليه من تحدثوا عن الاستشراق هو «التمكين للحضارة الغربية المسيحية المادية من السيطرة على حضارة الإسلام، وإلغاء دورها في الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية والاقتصادية، وتشكيك المسلمين بدينهم ومحاولة إبعادهم وغيرهم عنه». وهذا ما يؤكده الوزان بقوله: «إن من أهداف المستشرقين الوقوف في وجه الشعوب التي لا تدين بالإسلام ليمنعوهم من الدخول في دين الحق الدين الإسلامي بما يعملون جاهدين في تشويه الإسلام وتغيير الصورة الحقيقية لهذا الدين الحنيف، وإن إظهار الإسلام بصورة محرفة مستكرهة أمام الشعوب غير المسلمة بقصد صدهم عن سبيل الله وما نزل من الحق».
لذا فإن أصحاب هذا الرأي يتجهون إلى أن منبث الاستشراق سبب في ما يقع للأمة من بلاء، لذا وجب التمعن في التاريخ لفهمه وفهم أسباب الاستعلاء الغربي الذي يواجه به المسلمين، خاصة عندما تتم معاداة مشاعر المسلمين بالاعتداء على رموزهم الدينية، وتدافع السياسة الغربية عن ذلك باسم حرية التعبير، ولزاما عليهم استيعاب خلفياتهم الإيديولوجية الداعية إلى هذه العدوانية.
وقد توسع أحمد سمايلوفتش بشكل كبير في إظهار الخلفيات التاريخية واللغوية للمفهوم من خلال عرضها لدى كل من الثقافة الغربية والعربية، والتي خلصت لديه إلى استنتاجات متقاربة في جوانب ومتباعدة في أخرى، غير أن المتفق عليه هو التأكيد على أنه «أصبح علما مستقلا له ذاتيته وكيانه، ويقوم بدراسة كل ما يتعلق بالشرق وحضارته [وقد أدى دورا كبيرا ] في تعريف الغرب بحضارات الشرق عامة، وحضارة الإسلام وآداب العرب خاصة وأثرهم العظيم في الغرب نفسه ونهضته العلمية والفكرية على حد سواء».
وإذا كان البعض ينظر بريبة للاستشراق فإن هناك من رأى أنه لا ينبغي استبطان الأحكام المسبقة عن الاستشراق؛ لأن ذلك ينم عن رفض للآخر قبل الاطلاع على الرؤية المعرفية التي يقدمها، وبالتالي تصنيفه في دائرة واحدة كعدو وخصم في إطار أجنحة المكر، الشيء الذي يناقض مبادئ الذات في علاقاتها بالآخر، ويناقض المنهج العلمي في عرض الفكرة ومناقشتها في دائرة البحث عن المشترك.
إن مما يتوجب استحضاره حسب هذه الرؤية هو أن الاستشراق ليس كله اتجاها واحدا ومنهجا واحدا، فمعظم من تحدث عن الاستشراق أقر بأنه يشتمل «على عناصر سلبية وأخرى إيجابية»، وبالتبعية لا ينبغي التعامل مع الغرب على أنه اتجاه واحد ومذهب واحد بل باعتبار توجهاته المختلفة والمتعددة، والتي يمكن أن يتجه إليها بخطاب يستوعب تلك التنوعات، فضلا على أن للاستشراق تأثيرا كبيرا في الحضارة الإسلامية.
وقد عد كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد نموذج الوعي بالدراسات الاستشراقية إذ يشكل قراءة جديدة من منظور آخر، أحدث ردة فعل قوية لدى مختلف الحقول المعرفية والفكرية، حيث «كشف فيه مؤلفه المفكر…حقائق وأشياء جوهرية عن علاقة الغرب بالشر…وقد تحول في بعض الجامعات العالمية إلى كتاب كلاسيكي يتعرف من خلاله الطلاب على أيديولوجية الاستشراق الغربي، والجامعات الأميركية والأوروبية خصوصا في إطار الدراسات الشرق أوسطية».
والحقيقة أن الكتاب يعد نقطة تحول في دراسة الاستشراق، تنطلق من الرؤية النقدية التي تبناها في تناوله لظاهرة الاستشراق من خلال تقديم مفهومه ورصد آليات اشتغاله على مختلف الواجهات الفردية والمؤسساتية، والخوض في مضامينها وموضوعاتها. وهو يفرض استحضار الاستشراق في سياق بناء المشترك الإنساني.
المبحث الثالث: مسوغات دراسة الاستشراق في سياق بناء المشترك الإنساني
استطاع الاستشراق بفعل حيويته والدعم المعنوي والمادي الذي يحظى به، من تحويل العديد من الرؤى الفكرية والنظرية إلى واقع يرسم الشرق في ذهنية الغرب بكونه يمثل خطرا على الوجود الغربي وحضاراته، وإذا كان الاستشراق يمثل «أحد المحددات المهمة في العلاقات بين الثقافات، فإن هذا يعني إعطاء هذا المحدد القيمة الفعلية التي يُنظر من خلالها إلى إسهاماته في التقريب بين الثقافات، أو في الإسهام من جانب آخر في تأصيل مفهوم الافتراق والتضاد والتناحر بين الثقافات».
ولعل أهم الأسباب التي تجعل الحديث عن الاستشراق مستساغا في سياق الحديث عن بناء المشترك الإنساني، كون الاستشراق اشتغل بأهم مقومات الحضارة الإسلامية التي بنيت عليها، فالاستشراق اشتغل على المرجعية الإسلامية أكثر مما اشتغل على الإنسان المسلم أو الإنسان الشرقي، وهذا ما يوضح الاتجاه الاستشراقي المتجه إلى ضرب أصول الحضارة الإسلامية، خاصة ممن تميزت مناهجهم بالتحيز والإسقاطات المنهجية للرؤى المسبقة عن الإسلام وأصوله، أو بغرض تحقيق أهداف أخرى. وإن كان الاختلاف قد حصل في النظر تجاه الدراسات الاستشراقية، فإن المتفق حوله أنها تركت أثرا كبيرا في وجهات النظر التي تبناها الدارسون العرب في مجالات مختلفة.
ومما يدفع إلى مخاطبة الاستشراق في بناء المشترك الإنساني، معرفة الآخر الذي يفرض الاطلاع على ما يكتب عن الحضارة الإسلامية ومحاولة تصحيح تمثلاته، ووضع تصوراته في ميزان النقد، وإعادة إنتاجه في سياق أمر الخطاب القرآني الذي جاء فيه: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، وفي قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾، وبقصد التعرف على الآخر كما هو وتصحيح الصور المتبادلة بين الأطراف؛ لأنه في كثير من الأوقات أنتجت تصورات خاطئة تحكم نوع العلاقات الحضارية.
إن العلاقات التاريخية الفكرية التي ربطت الاستشراق بالحضارة الإسلامية على اختلاف بدايتها بين المفكرين، تجعل منه سبيلا للوصل من أجل بناء مشترك إنساني، كان بإمكانه القيام به لو استند إلى المعايير العلمية والمنهجية والموضوعية في قراءاته المختلفة في دور التقريب بين الحضارات والتواصل بينها، فالاستشراق كان الفرصة الضائعة بتعبير جارودي في بناء المشترك الإنساني.
لقد مثل الاستشراق الخلفية الفكرية للعديد من الآراء السياسية للغرب في بناء بعض القرارات التي تهم العلاقات الحضارية، فالاستشراق بذلك يمثل الجذور التي يستقي منها كثير من الغربيين معلوماتهم عن العالم الإسلامي بمكوناته الفكرية والدينية والتاريخية والاجتماعية، وهو الأمر الذي مازال ساريا، ذلك أن مادته العلمية «معترف بها عالميا ويكاد يكون ممثلا في كل جامعة من الجامعات الغربية مع وجود أعداد كبيرة من الكوادر التخصصية في الميادين الاستشراقية».
فهو إذن يشكل أحد منابع الغرب في استيفاء تصوراته حول الشرق وحضارته الإسلامية، مما عمق من النظرة الفوقية للغرب تجاه الشرق بإعمال الأدوات والآليات في مختلف مراحل تطوره، وتعد المناهج التعليمية ووسائل الإعلام أهم تلك الأدوات، بل إن كثيرا من البحوث الأكاديمية اليوم مازالت تعتمد عن الأسس الاستشراقية، وهو ما يؤكده مجموعة من الكتاب في تناولهم للظاهرة الاستشراقية، كمالك بن نبي وعمر عبيد حسنة.
ولعل نظرة استقراء جزئية للكتابات التي خصصت للاستشراق تعطي صورة عن الأهمية الكبرى التي يحفل بها الاستشراق في الدراسات العربية، لما له من تأثير في الجانبين الغربي والإسلامي على حد سواء، فالعالم الغربي لم يعد بإمكانه «أن يكتب عن الشرق أو يفكر فيه أو يمارس فعلا مرتبطا به [أو] أن يتخلص من القيود التي فرضها الاستشراق على حرية الفكر أو الفعل في هذا المجال». لذا فإن العديد من الاتجاهات الدينية والثقافية والفكرية قد جعلت الاستشراق مبحثا من مباحثها ودرسا من دروسها تحاوره وتساجله وترد عليه بحقولها المختلفة في عصرنا الحالي.
ومن هنا تثبت إجرائية الاستشراق كونه لم يبق حبيس الرفوف المكتبية، بل بثت فيه الروح العملية في الواقع، فتحول إلى سياسات تحكم البلدان واستراتيجيات يسير وفق خطوطها الغرب، خاصة في ظل التحولات الكبرى التي تعرفها الساحة الدولية، وقد برز ذلك جليا في الدراسات الحديثة التي يجريها الاستشراق الجديد في الجامعات الغربية وعلى رأسها الأطروحات المنادية بالصراع الحضاري.
مما يطرح التساؤل على الفاعلين في الحقل الاستشراقي عن مدى الجدية في استبدال تعاملهم بما يوافق مسلمات البحث العلمي وضوابطه وشروطه، قبل الامتثال للمعطيات المعرفية التي تدعو لبناء مشترك إنساني.
المبحث الرابع: الاستشراق ومداخل بناء المشترك الإنساني
إذا كان بناء المشترك الإنساني مع الآخر، يمر عبر قنوات أساسية، الرسمي منها والشعبي؛ الذي يعتمد التواصل المفتوح، فإن منها ما يخرج عن دوائر القرار السياسي، ويصل عبر رجال الفكر الذي يعتبر المستشرقين أحد أعمدته مما يحتم الاستناد إلى الاستشراق بغية «التفاهم انطلاقا من أوليات ومسلمات بصدد قضايا محددة، وباعتماد ما هو مشترك للوصول إلى توافق منتج، تتمخض عنه في نهاية المطاف أشكال من التعايش أو التعاون أو التعاضد».
ومن هذا المنطلق، ومنطلق واجب البحث العلمي يتحتم تجاوز الحسابات الضيقة التي تحكم الأنانية في التعامل مع الآخرين لطرح الأسئلة التالية: كيف ينبغي استثمار العلاقات الاستشراقية لبناء مشترك إنساني؟ وما مداخل بنائه؟
إن الإجابة عن الأسئلة يأخذ بعده من الإدراك الواقعي للصعوبة التي تحدو بناء المشترك الإنساني، إذ يتعلق بركام من الصور السلبية المتبادلة عبر نفس القناة، نتيجة سوء عرض وتسويق للذات بشكل متوازن، الأمر الذي دفع العديد من الكتاب المسلمين للتصدي للظاهرة الاستشراقية، والرد على ما اعتبر تنقيصا أو سوء فهم للإسلام وأصوله،فكانت الفرصة لتقريب النظر وسبر الرأي ووضع مداخل البناء في المجالات المتعددة المعرفية منها والسياسية والاجتماعية وكذا استشراف المستقبل.
وفي ما يلي بعض المداخل المقترحة التي يمكن اعتمادها مع الاستشراق لبناء مشترك إنساني:
أولا: المدخل المعرفي:الاستشراق ليس مرحلة تاريخية انتهت بانتهاء الاستعمار، إنما هو فعل فكري ومعرفي متجدد عبر الزمان والمكان، ويتخذ من الأشكال ما يمكنه من التعرف على الذات الإسلامية، ولا أدل على ذلك حجم ما أنتجه وينتجه المستشرقون عن الثقافة الإسلامية. ففي فرنسا صدرت «مجلات اهتمت بالتراث العربي والإسلامي والتعريف به، واستطاع الأدب العربي أن يؤثر في الأدب الفرنسي، وانتشرت بعض الكتب العربية في فرنسا»، وقس على ذلك بقية البلدان غير الإسلامية.
ويصعب على الباحث في المجال الاستشراقي أن ينكر الأرضية المشتركة التي عالجها الاستشراق ورد عليه فيها المسلمون، ذلك أن المجال المعرفي والعلمي كان سيد الموقف في تناول القضايا ذات البعد المشترك بين الحضارات، فقد اهتم المستشرقون بالمجال المعرفي خاصة ما يتعلق بالعلوم الإسلامية التي أثلها المسلمون وعلى رأسها العلوم التجريبية، التي تعد بمثابة المشرك الإنساني الذي تستند إليه البشرية، باعتبارها ثمارا للعقل وللممارسة الإنسانية وهي «من قبيل الفكر الذي هو مشترك إنساني عام»، لا يحاصره الزمان ولا المكان ولا يعرف نسبة إلا لمن أخذ بالأسباب. فالإنسان يخرج من بطن أمه لا يعلم شيئا، وفيه تتساوى البشرية جمعاء، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾.
فالعلوم التجريبية التي لا تخضع نتائجها لسلطان الذاتية ولا التحيز تدخل في إطار المشترك الإنساني، لأنها لا تراعي «مذاهب وعقائد وأجناس وفلسفات المكتشفين، ومن ثم فهي لا تتغاير بتغاير القوميات والحضارات، بل هي واحدة على المستوى الإنساني، كما أن موضوعاتها المادة وظواهرها واحدة هي الأخرى لا تختلف ولا تتغاير باختلاف وتغاير الحضارات، فعلوم مثل الرياضيات بفروعها ومثل الكيمياء والطبيعة والطب والجيولوجيا لم ولن تختلف مناهجها وحقائقها وقوانينها باختلاف الحضارات».
ثانيا: المدخل الاجتماعي: من الجوانب التي ينبغي التنبيه إليها في العلاقة مع المستشرقين، الجانب الاجتماعي الذي كان للمستشرقين نصيب كبير في التأثير عليه، خاصة فيما يتعلق بالحريات الفردية وحقوق الإنسان وعلاقة الرجل بالمرأة ودور الأسرة، وهي من المواضيع التي يمكن التأسيس عليها في بناء المشترك الإنساني، باعتبارها مشتركات بشرية وجب الحفاظ عليها، ومنها تحرير النزاع والخلاف المستحكم في السلوك العملي.
إن المسألة الاجتماعية قضية مركزية في بناء المشترك الإنساني، وما لم يتمكن من إزالة اللبس القائم في فسيظل البعد بين الحضارات قائما، وقد ساهم الاستشراق بدوره في الخلط بين العديد من المفاهيم التي تم نقلها إلى العالم الغربي منها موقف الإسلام من المرأة وعملها ومسألة الحجاب والمساواة بين المرأة والرجل وكل ذلك «تحت تـأثير وضع المرأة الغربية أنها نموذج يجب أن يحتذى به، وأن ما حققته من مساواة وحقوق يجب أن يتسع ليشمل المرأة المسلمة والمرأة الشرقية عامة»، وهذا من شأنه أن يضع «للمرأة المسلمة تصويرا مزيفا لا يعكس الحقيقة.»
ويمكن وضع العلاقة الاجتماعية بين المسلمين فيما بينهم ومع غيرهم على رأس الأولويات في المدخل الاجتماعي. فالتاريخ الإسلامي على علاته كان نموذجا في التعامل مع الآخر، ومازال التراث الإسلامي شامخا يعبر عن التفاعل والتمازج مع الآخر، إذ يمكن اعتباره «نتاج تفاعل شعوب، ونتاج عبقريات أمم أسهمت في صنع حضارة ذات تراث إنساني، أغنت الحياة الإنسانية بمثل وقيم اجتماعية وأخلاقية سامية».
فالاستشراق إذن، معبر أساسي لبناء مشترك إنساني في العلاقة مع الآخر، عبر توظيف إمكاناته في مجالات التعليم والتوجيه والتربية بما هي سلوك مستمر،وهو ما يسمح ببناء تصور لطرق التعامل مع الآخر.
ثالثا: المدخل الأخلاقي: الأخلاق أحد أهم المداخل التي يتحتم الاشتغال على أصولها في بناء المشترك الإنساني، وهي أحد أسس المجتمع التي ينبغي أن تحظى بالأولوية خاصة وأن الإسلام قد أحاط هذا المجال بالكثير من النصوص. والحضارة الإسلامية قد حملت المعرفة والعلوم إلى الأمم الأخرى بالأخلاق لا بالسيف، وبسببها أحدث الإسلام تغييرا «في المجتمع الإنساني».
إن نقل المعركة من الساحة العسكرية إلى الساحة الأخلاقية، كان دأب بعض المستشرقين لإدراكهم لمركزية الأخلاق، فسعوا إلى إبعاد المسلمين عن ثوابتهم وتشويهها وتنحيتهم عن مصادرها لما لها من أثر على بناء مقومات الفرد والمجتمع النفسية والعقلية لتحقيق مآربهم المختلفة انطلاقا من مقاربة تعتبر «الأديان عوائق دون بلوغ التوافق الكوني في المجال القيمي والأخلاقي»، وهو عكس ما ذهب إليه الباحث الياباني «توشيكو إيزوتسو» حين اعتبر المسألة الأخلاقية هي دينية لصلتها المباشرة بالألوهية.
وفي عالم اليوم، الأزمة الأخلاقية لم تعد مقتصرة على مجتمع دون آخر، بل متجذرة في العالم يكتوي بلظاها الشرق والغرب، مما يرفع التحدي أمام المقاربات البديلة التي تتغيا خلق واقع أخلاقي إنساني يبعث الأمل، «ولا يُتصور ذلك في انفكاك عن استحضار وعي قيمي، وأخلاقي وظيفي، مستوعب لكافة أضرب النشاط الإنساني، مع التكييف التفصيلي بحسب طبيعة كل منها. في أفق استخلاص جملة من الشفرات والقوانين التنظيمية، المراعية لمختلف المرجعيات، في حدود عدم العدوان على الضروريات».
إن المسألة الأخلاقية بمختلف جوانبها ومقارباتها، وهي أحد موضوعات الدراسات الاستشراقية، تحتاج إلى تظافر الجهود العلمية والعملية لجعلها في صلب المشترك الإنساني. والقرآن الكريم بما يمثله من أصل للمعرفة، قادر على وضع قطيعة مع المقاربات التجزيئية المادية التي تخرج الإنسان عن سياقه الاستخلافي، والكفيل بضمان الموازنة بين ما تصبو إليه الحياة الإنسانية، فأخلاقه «ليست معلقة على الجزاء الأخروي وحده، ولا هي أوامر مطلقة لا تقبل التعقل والفهم، بل تستند لبراهين عقلية ولمقاصد إنسانية، وتراعي الأحوال الواقعية للإنسان، وتعالج سلوكه عبر منهجية تربوية مرنة ومتدرجة».
رابعا: المدخل السياسي: يعد الجانب السياسي أحد أركان بناء المشترك الإنساني، فالتواصل بين الحضارات في أبسط رؤاه لا يمكن أن يتجسد واقعا بتغييب الظروف، فمسألة الصراع والحوار، لاشك أنها خاضعة للتوازنات السياسية والاقتصادية القائمة بين حضارتين ما، مما يؤكد أن السياسة تشكل منطلقا مهما من شأنه أن يبسط أرضية سليمة عبر تقريب الهوة، والخلافات بين الرؤى، والتوجهات العالمية، وقد ارتبك الاستشراق في مهمته المعرفية حينما «استطاع بذكاء أن يوجد تحالفا بين الثقافة والسياسة، وأن يستخدم الثقافة كأداة لتحقيق أهداف سياسية».
إن تحالف الاستشراق والسياسة هو ما جعل المنتقدين للاستشراق يتجهون اتجاها عدائيا في نقده وإدانته، خاصة وقوفه الواضح خلف السياسات الاستعمارية للغرب بتوظيف بحوثه العلمية لكشف طبائع الشعوب وتذليل صعاب السيطرة عليها.
وأمام ذلك، يطرح التساؤل، لماذا لا يتم تحويل هذا التأثير إلى إيجابية تبني المشترك الإنساني؟ وقد أقر كثير من الدارسين أن للاستشراق أثر كبير على مجريات الفكر السياسي والاستراتيجي للعلاقات الدولية والإقليمية.
لذا ينبغي توطين الفكر والحركة مع دائرة المستشرقين بشكل يضمن التواصل معهم بطريق تحقق المصالح الداخلية، ويؤمن الذات من الأزمات التي أصبحت تشكل تهديدا للدول، خاصة في سياق العالم الجديد الذي طفا على السطح الأوروبي بفعل نهضته.
إن العالم اليوم بقدر ما هو منفتح على بعضه، مدعو إلى أكثر من ذلك لبناء هذه العلاقات على أساس سياسي متين، يكون بمثابة الضامن لمستقبل العلاقات الحضارية، التي تجعل مستقبل العالم مستقبل أمن واستقرار على جل المستويات، في ظل تهديدات تنبع من كل الأطراف، وفي سياق ظهور نظريات تجعل من مستقبل العالم مستقبل حرب وتطاحن لا مكان فيه إلا للأقوى.
خامسا: مدخل منهجي: بقدر ما اعترف كثير من المفكرين بأهمية كثير من الدراسات الاستشراقية في الاشتغال بتراث الأمة الإسلامي بقدر ما توجه النقد إلى أعمالهم خاصة في جانبها المنهجي، ذلك أنه تم الوقوف على كثير من الهنات والمنزلقات الخطيرة التي وقعت فيها هذه الدراسات على المستوى المنهجي خاصة أن أصحابها زعموا توظيف مناهج علمية، لكن بالتأمل تجد أنها «تحتوي على أخطاء جسيمة عمدا أو جهلا».
ويعتبر المنهج مبحثا إشكاليا في العلوم الإنسانية، وهو إن كان يعني: «خطة منظمة لعدة عمليات ذهنية أو حسية بغية الوصول إلى كشف حقيقة أو البرهنة عليها»، فإنه يعد من الأساسيات التي تعطي مصداقية للحقائق المعرفية «سيما في مجال الدراسات القرآنية التي تتطلب دقة وحساسية أكثر من غيرها،كي نتجنب قدر الإمكان الخلل والخطأ في فهم الخطابات القرآنية».
لذا فإن الناظر الحصيف ينبغي أن يعمل آليات التفكير في تطويع قضية المنهج في الدراسات الاستشراقية في إعادة بناء الحضارة الإنسانية متجاوزا بذلك مواقف بعض المستشرقين المتطرفة في مجال العلوم الإسلامية، وتاريخ الإسلام والمسلمين، من حيث مناهج التعامل سواء مع المرجعية الإسلامية أو التراث الإسلامي؛ نظرا لراهنية بعدها الزمني، ولكون قضية المناهج قضية متجذرة ومستمرة استمرار الدراسات الاستشراقية في ثوبها الجديد.
إن النظر المعرفي والمنهجي في قضايا الآخر لا يعد عيبا بل المطلوب تناول فكره بالنقد والتحليل، لكن دون التمترس القبلي خلف الأحكام الجاهزة، لذلك يتوجب علميا وعمليا إعادة النظر في الآليات المنهجية التي يشتغل بها الاستشراق على فكر وثقافة الإسلام، بما يمكن من رسم الصورة السليمة عن ثقافة الإسلام وتحييد المؤسسات الاستشراقية التي تمد الساسة بنتائج تلك الدراسات لتوظيفها ضد المجتمعات المسلمة.
ومن هنا يمكن اعتبار المسألة المنهجية مدخلا علميا وعمليا في بناء المشترك في التعامل مع أصول المرجعية الإسلامية، إذ ينبغي أن تعمد إلى النبش عن الآليات المنهجية التي أصل لها القرآن الكريم وأنزلها التطبيق النبوي على أرض الواقع العملي في زمن النبوة وبناء الدولة في علاقاتها الداخلية مع الآخر أو الخارجية مع الحضارات المجاورة.
لا يستطيع أحد أن يغمض عينيه ولا أن ينكر أن لكل حضارة وأمة أخطاؤها العملية في تنزيل مقتضيات تصوراتها على الواقع في مختلف العصور، وقد كان لها الأثر البالغ في بناء العلاقات الحضارية، إلا أن هذا لا يمنع من إبراز نقاط القوة في الحضارات المجاورة لخلق مستقبل متساكن.
ومما يتوجب استحضاره في معالجة منظومة الحضارة الإسلامية احترام منظومتها الفكرية والإيمانية التي تؤسس لرؤاها وفلسفته للإنسان والحياة والوجود والمصير، لأن مما هو معلوم بالضرورة أن هناك تمايزا واضحا في المناهج التي ينبغي تطبيقها في دراسة العلوم الإسلامية، وبين ما التزم به المستشرقون المتماهون مبدئيا مع قناعاتهم الدينية وخلفياتهم الفكرية، ومعظم العلوم الإسلامية مرتبطة بالعالم الغيبي الذي لا تعترف به مناهجهم، الموظفة والمثقلة بالنظرة المادية المخبوءة في عمق العقل الغربي، وهو ما يجعلها تصطدم بالثوابت المنطقية والغيبية التي ترتقي إلى مرتبة المسلمات عند المسلمين، والتي لا تقبل المناهج الغربية، باعتبار الوحي يفرض للتعامل معه عقلا يؤمن بالغيب، وتلك هي «نقطة الاختلاف الأساس والجوهري، ولا يمكن في ظل هذه التصورات إلا أن يقع التصادم عنيفا وقويا بين مناهج العلماء المسلمين ومناهج المستشرقين».
لا شك أن إعمال هاته المناهج في التعامل مع الحضارة الإسلامية وأصولها سيكسر حاجز التواصل ويرتطم بصخور المسلمات ويحرم «العلماء من الدراسة الجادة لإسهامات الإسلام في الفكر الغربي»، وهو ما حصل بفعل الدراسات السابقة التي أوصلت العالم إلى النظرة الهنتنغتونية في العلاقات الحضارية، وقبلها نهاية التاريخ التي استقت كما مثيلتها من نفس الحقائق الناتجة عن إعمال الآليات المنهجية المادية.
ولا ينكر أحد من الباحثين أنه متى وقع اختلاف بين المنهج والموضوع المعالج تنتج تشوهات معرفية، يكون لها أثر سلبي في العلاقات الحضارية، لذا فإن الانسجام مطلوب بين المنهج والموضوع «لتحقيق الأهداف المعرفية المرجوة».
ومن أهم القضايا المنهجية التي ينبغي مراجعاتها هو عدم الانطلاق من مبدأ التشكيك في المرجعيات العليا للفكر الإسلامي وضربها في أصولها وفروعها، والطعن في بنياته ودوره في بناء الحضارة الإسلامية، وهذا ما تمت ملاحظاته في كثير من الدراسات الفكرية المعاصرة، من بينهم صلاح الجابري الذي يرى أن القراءة الاستشراقية للعالم الشرقي تنبعث من منطلق إيديولوجي بمجرد انتمائه إلى العقل الغربي الذي يحمل رؤية خاصة للآخر، وبالتالي البعد عن الموضوعية التي تعني الائتمان على النتائج المتوصل إليها بناء على إعمال الآليات الغربية وخلفياتها الثقافية في دراسة الموضوع.
وعموما فإن المنهج يتخطى كونه آلية للعمل والفهم والبحث، إلى صناعة المعرفة وقوة تداولها، بل قدرتها على النفاذ إلى العقول وقبول مسلمات نتائجها، ذلك أن الحقيقة المعرفية لا تقبل مبدأ الغاية تبرر الوسيلة المعتمدة من لدن العديد من المستشرقين المغرضين، وقد وقع في ذلك أكثر المستشرقين في تناولهم للعلوم الإسلامية بمختلف جوانبها وتخصصاتها، وهو ما ينبغي تجاوزه في زمن التطور التكنولوجي والتقارب الحضاري، بقصد البحث عن المداخل العلمية والعملية لرص الصف الحضاري الإنساني على أسس متينة ومشتركة.
وخلاصة القول فإن الاستشراق يعد أحد الفرص التي تسمح ببناء المشترك الإنساني بما يمتلكه من أدوات التأثير في الرؤى الغربية وغير الغربية في علاقات الحضارات ببعضها، الأمر الذي يتطلب الوقوف على المستشرقين ومقارعتهم ومحاورتهم، ومحاولة الإقناع وبناء المعرفة الإسلامية على أصولها بالتغلغل المعرفي اللطيف، والمرونة الأخلاقية، والتدرج وفق مناهج علمية مضبوطة، تسمح بالتأثير وخلخلة البنيات الغربية الفكرية التي بنيت عليها القواطع الاستشراقية. فالغرب أو جزء منه، يؤمن بالمنطق العلمي ويوظف الدليل العقلي في بناء معارفه، وهو أدعى لأن يتم إعماله في سياق البحث عن بعض ما يساعد في بناء المشترك الإنساني وإثباته، بدلا عن الغوص في المختلف وتوسيع رقعته.
وقد ذهب هذا المسلك العديد من المفكرين حين دعوا إلى «إقامة الجسور بين علماء المسلمين والمعتدلين من المستشرقين حتى يمكن إجراء حوار مثمر بين الطرفين…وهناك مستشرقون معاصرون يتوخون الموضوعية وعلى استعداد للحوار العلمي مع علماء المسلمين»، بقصد تصحيح الصورة وتوجيه الرأي.
المصادر والمراجع:
القرآن الكريم برواية حفص عن عاصم.
ابن نبي، مالك: إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث، دار الإرشاد، بيروت، ط1، 1388ه/1969م.
ادوارد، سعيد: الاستشراق المفاهيم الشرقية للغرب، ترجمة: محمد عناني، دار رؤية للنشر والتوزيع، القاهرة، ط6، 2006م.
اسبوزيتو، جون: التهديد الإسلامي خرافة أم حقيقة؟ ترجمة: قاسم عبده قاسم، دار الشروق، القاهرة، 2002م.
البازعي، سعد: الاختلاف الثقافي وثقافة الاختلاف، المركز الثقافي العربي، البيضاء/ المغرب، ط1، 2008 م.
باقر بري: إضاءات على كتاب الاستشراق لإدوار سعيد، دار الهادي دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت/ لبنان، ط1.
البهي، محمد: المبشرون والمستشرقون في موقفهم من الإسلام مطبعة الأزهر.
الجابري، صلاح: الاستشراق قراءة نقدية، دار الأوائل، دمشق/سورية، ط1، 2009م.
جعفر عبد السلام- السايح أحمد:المسلمون والآخر، أسس لتبادل الحوار والتعاون السلمي، جامعة الأزهر، القاهرة، 1427ه/2006م.
حبنكة الميداني، عبد الرحمن: أجنحة المكر الثلاثة وخوافيها، التبشير، الاستشراق، الاستعمار، دراسة وتحليل وتوجيه، دار القلم، دمشق، ط8، 1420ه /2000م.
حسنة، عمر عبيد: مراجعات في الفكر والدعوة والحركة، الدار العالمية للكتاب الإسلامي، ط2، 1414ه/1994م، ص28.
خليفة، حسن: آثار الفكر الاستشراقي في المجتمعات الإسلامية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، القاهرة،1997 م.
دياب، محمد أحمد: أضواء على الاستراق والمستشرقين، دار المنار، القاهرة، 1410هـ/1989م.
رضا، أحمد: معجم متن اللغة دار مكتبة الحياة، بيروت، ط1، 1378/ 1959.
رفيع، محماد بن محمد:النظر الشرعي في بناء الائتلاف وتدبير الاختلاف، دار السلام للطباعة والتوزيع والترجمة/القاهرة، ط1، 2012 م.
زقزوق، محمود حمدي: الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري، دار المعارف، القاهرة،1997 م.
الزيات، حسن: تاريخ الأدب العربي، دار النهضة مصر، القاهرة،(د.ت.ط).
السرجاني، راغب: المشترك الإنساني نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة، القاهرة/مصر، ط1، 2011م/1432هـ.
سمايلوفتش، أحمد: فلسفة الاستشراق وأثرها في الأدب العربي المعاصر، دار الفكر العربي، القاهرة، 1418ه/1998م.
عمارة: محمد، الغزو الفكري، وهم أم حقيقة؟، قضايا إسلامية معاصرة، الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية، مطابع روز اليوسف، ( د.ت.ط).
الغزالي، محمد: دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين، نهضة مصر، القاهرة، ط 7، ابريل 2005م.
اللبان، إبراهيم عبد المجيد: المستشرقون والإسلام، مجمع البحوث الإسلامية، أبريل 1970م.
منصور: الاستشراق والوعي السالب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر،بيروت ط الثانية،السنة 2005م.
مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، القاهرة، 1960م.
مصطفاوي، محمد:أساسيات المنهج والخطاب في درس القرآن وتفسيره، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، ط1، بيروت لبنان، 2009.
المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1403ه.
مكرم، عبد العال سالم: المشترك اللفظي في الحقل القرآني، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1417هـ، ط2.
النبهان، محمد فاروق: الاستشراق تعريفه آثاره، منشورات المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، 1433ه/2012م.
الندوي، أبو الحسن علي:ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين، مكتبة الإيمان، المنصورة/مصر، (د.ت.ط).
النملة، علي ابراهيم: صناعة الكراهية بين الثقافات وأثر الاستشراق في افتعالها، دار الفكر، دمشق، ط1، 1429ه/2008م.
الوزان، عدنان محمد: الاستشراق والمستشرقون وجهة نظر،(د.ت.ط).
يحيى، مراد: معجم أسماء المستشرقين، دار الكتب العلمية بيروت/ لبنان.
المجلات والندوات:
مجلة الاجتهاد، دار الاجتهاد للأبحاث والترجمة والنشر، بيروت /لبنان،ع 22، 1414ه/1994م. (ص: 191-211).
كتاب الأمة، ع 153، السنة33، الدوحة/ قطر، ط1، 1434ه/ 2012م.
الندوة العلمية الدولية، سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2012م.
مؤتمر الفقه الإسلامي عام 1396هـ، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض،1401هـ/ 1981م. (ص:175-279).
ندوة حوار الثقافات هل هو ممكن؟ منشورات وزارة الثقافة، الرباط/المملكة المغربية، ط1، دجنبر 2003م.(ص:63-80).