هل الأصل في الأحكام التعليل أم التعبد؟

ملخــص:

معلوم عند علماء المسلمين أن الشريعة معللة جملة بجلب المصالح ودرء المفاسد، لكن عند التفصيل هناك اتجاهان مختلفان، اتجاه يرى أن الأصل في العبادات التزام التعبد، وفي المعاملات القول بالتعليل ومعقولية المعنى، واتجاه يرى أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته سواء في جانب العبادات أو المعاملات.

خلص الباحث إلى أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته، بل الأصل التعليل حتى يتعذر، وحجته كون القرآن والسنة وهما أصلا التشريع الإسلامي، مملوآن تعليلا في العبادات والمعاملات، وذلك في أكثر من ألف موضع، كما نص على ذلك ابن القيم، حيث قدم الباحث نماذج وأمثلة من القرآن والسنة النبوية وأقوال العلماء وتعليلات الفقهاء التي تدل على المراد.

إن التعليل ومعقولية المعنى هي الأصل، وإن بقيت بعض الجزئيات بدون معرفة الحكمة منها، ولم يظهر لنا مغزاها، فهذا لا يدل على أنها غير معللة، بل لم نصل بعد لمرادها، وهي تندج تحت الأصل العام في التعليل” أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا” كما يقول الشاطبي.

Abstract:

It is known to Muslim scholars that the Shari’aaccountsto bring interests and to ward off evil. However, in the elaboration there are two different trends, one that sees the origin of worship as the obligation of worship, and in the transactions to say reason and reasonableness, and the trend that viewseverything in the sharia is justified and has its purpose and interest, Worship or transactions.

      The researcher concluded that all that is in the Shari’a is reasoned and has its own purposes and interest. Rather, the origin is reason, till it is not possible to justify it, and its argument is that the Qur’an and the Sunnah, originally the Islamic legislation, are full of explanations in the acts of worship and transactions. In more than one thousand issues, as stated on Ibn Al Qaim’s. The researcher models and gave examples from the Quran and the Sunnah of the Prophet and the saying of scholars and explanations of the scholars that indicate the purpose.

         The explanation and reasonableness of meaning is the origin, although some particles remained without knowledge of the wisdom behind them, and did not show us the meaning, this does not indicate that it is not justified, but we have not yet come to its intended, which falls under the general origin in the explanation, “The status of the laws is for the interests of people In both the urgent and the long-term, “says Shatby.

مقدمة:

يرى معظم علماء الإسلام أن أحكام الشريعة الإسلامية معللة جملة بجلب المصالح ودرء المفاسد، “فمَبْنَاها وأساسَهَا على الحِكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عَدْلٌ كلُّها، ورحمةٌ كلها، ومصالحُ كلها، وحكمةٌ كلها…”[1]، لكن عند التفصيل هناك اتجاهان مختلفان، اتجاه يرى أن الأصل في العبادات التزام التعبد، وفي المعاملات القول بالتعليل ومعقولية المعنى، واتجاه يرى أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته سواء في جانب العبادات أو المعاملات.

من هنا يطرح التساؤل الآتي:

– هل كل ما في الشريعة معلل ومعقول المعنى أم أن هناك قسم لا يعقل معناه أي تعبدي؟

في هذا المقال يحاول الباحث الإجابة عن هذا التساؤل، هل الأصل في الأحكام التعليل أم التعبد؟

ولكن قبل ذلك، لنحدد مفهومي التعليل والتعبد.

أولا: تعريف التعليل:

تتبع الدكتور مصطفى شلبي استعمالات الأصوليين لمصطلح العلة، وحصرها في ثلاثة استعمالات فقال: ” لفظة العلة أطلقت في لسان أهل الاصطلاح على أمور:

– الأمر الأول: هو ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر، مثل ما يترتب على الزنا من اختلاط الأنساب، وما يترتب على القتل من ضياع النفوس وإهدارها…

– الأمر الثاني: ما يترتب على تشريع الحكم من مصلحة أو دفع مفسدة، كالذي يترتب على إباحة البيع من تحصيل النفع السابق، وما يترتب على تحريم الزنا والقتل وشرع الحد والقصاص من حفظ الأنساب والنفوس.

– الأمر الثالث: وهو الوصف الظاهر المنضبط، الذي يترتب على تشريع الحكم عنده مصلحة للعباد.
فإنه يصح تسمية هذه الأمور الثلاثة بالعلة… ولكن أهل الاصطلاح فيما بعد خصوا الأوصاف باسم العلة، وإن قالوا إنها علة مجازًا، لأنها ضابط للعلة الحقيقية، وسموا ما يترتب على الفعل من نفع أو ضرر حكمة، مع اعترافهم بأنها العلة الحقيقية؛ وسموا ما يترتب على التشريع من منفعة أو دفع مضرة بالمصلحة، أو مقصد الشارع من التشريع؛ وبعضهم أطلق عليه لفظة الحكمة، كما أنهم قالوا: إنه العلة الغائية”[2].

ثانيا: تعريف التعبد:

عرف كثير من الأصوليين التعبد بما هو خال عن المعنى أو ما لا يعقل معناه، حيث لم يظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة فأطلقوا لفظ التعبد عليه، يقول الشاطبي:” التعبدات التي لا يعقل لها معنى”[3]، ويقول الغزالي في بيان معنى التعبد:” لأن مبنى العبادات على الاحتكامات، ونعني بالاحتكام: ما خفي علينا وجه اللطف فيه؛ لأنا نعتقد أن لتقدير الصبح بركعتين، والمغرب بثلاث، والعصر بأربع سراً، وفيه نوع لطف وصلاح للخلق، استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه، ولم نطلع عليه. فلم نستعمله، واتبعنا فيه الموارد”[4]

وجاء تعريف التعبد في مقابلة التعليل، قال التفتازاني:” كون الحكم الثابت بالنص تعبديا أو معقولا بمعنى ألا يدرك العقل معناه أي علته أو يدرك”[5].

وهكذا يمكن أن نستخلص أن المشروعات تنقسم بحسب معرفة الحكمة منها من عدمها إلى قسمين:

أحدهما ما ظهر لنا أنه جالب لمصلحة أو دارئ لمفسدة، أو جالب دارئ. ويعبر عنه بأنه معقول المعنى.

الضرب الثاني: ما لم يظهر لنا جلبه لمصلحة أو درؤه لمفسدة، ويعبر عنه بالتعبد[6].

ثالثا: هل الأصل في الأحكام التعليل أم التعبد؟

معلوم عند علماء المسلمين أن الشريعة معللة جملة بجلب المصالح ودرء المفاسد، وهذا ما نص عليه غير واحد من العلماء، يقول الشاطبي:” أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا”[7]، ويقول أيضا:” الأعمال الشرعية ليست مقصودة لأنفسها، وإنما قُصد بها أمور أخر هي معانيها، وهي المصالح التي شرعت لأجلها[8].

وقال العز بن عبد السلام:« معظم الشريعة الأمرُ بما ظهرت لنا مصلحته، أو رجحان مصلحته، والنهي عما ظهرت لنا مفسدته، أو رجحان مفسدته»[9].

أما عند التفصيل فذهب بعضهم إلى هذا التقسيم، أن الأصل في العبادات التزام التعبد، وفي المعاملات القول بالتعليل ومعقولية المعنى. يقول الشاطبي:” الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني”[10].

وذهب فريق آخر أن كل ما في الشريعة معلل وله مقصوده ومصلحته، بل “الأصل التعليل حتى يتعذر”[11]، كيف لا، والقرآن والسنة وهما أصلا التشريع الإسلامي، مملوآن تعليلا في العبادات والمعاملات، وذلك في أكثر من ألف موضع، كما نص على ذلك ابن القيم، قال رحمه الله:” القرآن وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم مملوآن من تعليل الأحكام بالحِكم والمصالح، وتعليل الخلق بهما؛ والتنبيه على وجوه الحِكم التي لأجلها شرع تلك الأحكام، ولأجلها خلق تلك الأعيان، ولو كان هذا في القرآن والسُنّة في نحو مائة موضع أو مائتين لسقناها، ولكنّه يزيد على ألف موضع بطرق متنوعة”[12].

بل ذهب الطاهر بن عاشور رحمه الله إلى أن القول بالتعليل ومعقولية المعنى معتمدا على استقراء أدلة القرآن والسُنّة الصّحيحة قال رحمه الله:” واستقراء أدلة كثيرة من القرآن والسُنّة الصّحيحة يوجب لنا اليقين بأن أحكام الشريعة الإسلامية منوطة بحِكم وعِلل راجعة للصّلاح العام للمجتمع والأفراد”[13].

ويرى صاحب مواهب الجليل في شرح مختصر خليلأن التعليل، وبيان الحكمة معهود الشرع وعادته في تشريع الأحكام، يقول رحمه الله:”… كثيرا ما يذكر الفقهاء التعبد ومعنى ذلك الحكم الذي لا يظهر حكمه بالنسبة إلينا مع أنا نجزم أنه لا بد من حكمته، وذلك لأنا استقرينا عادة الله تعالى فوجدناه جالبا للمصالح دارئا للمفاسد، ولهذا قال ابن عباس  رضي الله تعالى عنهما: إذا سمعت نداء الله تعالى فهو إنما يدعوك لخير أو يصرفك عن شر كإيجاب الزكاة والنفقات لسد الخلات وأرش جبر الجنايات المتلفات وتحريم القتل والزنا والسكر والسرقة والقذف صونا للنفوس والأنساب والعقول والأموال والأعراض عن المفسدات”[14].

فإذا كان الأمر كذلك، فهذه بعض الأمثلة والنماذج من القرآن الكريم والسنة النبوية توضح تعليل العبادات وبيان الغاية منها: 

– أولا: القرآن الكريم يعلل العبادات:

1 – قال تعالى: ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ[15].

أمر الله تعالى بالصلاة وعلل ذلك بأمرين:

أ – كونها تنهى عن الفحشاء والمنكر: يقول الطاهر بن عاشور:” وعلل الأمر بإقامة الصلاة بالإشارة إلى ما فيها من الصلاح النفساني فقال إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، فموقع إن هنا موقع فاء التعليل ولا شك أن هذا التعليل موجه إلى الأمة… فاقتصر على تعليل الأمر بإقامة الصلاة دون تعليل الأمر بتلاوة القرآن لما في هذا الصلاح الذي جعله الله في الصلاة من سر إلهي لا يهتدي إليه الناس إلا بإرشاد منه تعالى فأخبر أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر”[16].

ب – إقامتها مقصوده ذكر الله: بين صاحب التحرير والتنوير أن مقصود الصلاة ذكر الله في معرض حديثه عن قوله تعالى:﴿وأقم الصلاة لذكري[17]، فقال:” واللام في لذكري للتعليل، أي أقم الصلاة لأجل أن تذكرني، لأن الصلاة تذكر العبد بخالقه. إذ يستشعر أنه واقف بين يدي الله لمناجاته. ففي هذا الكلام إيماء إلى حكمة مشروعية الصلاة…”[18].

2 – قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ[19].

شرع الله الصيام وبين حكمة مشروعيته، حيث جاء بأداة التعليل “لعل” لبيان غاية مشروعيته في قوله تعالى: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، يقول محمد سيد طنطاوي:” وقوله: ﴿لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ جملة تعليلية جيء بها لبيان حكمة مشروعية الصيام فكأنه سبحانه يقول لعباده المؤمنين: فرضنا عليكم الصيام كما فرضناه على الذين من قبلكم، لعلكم بأدائكم لهذه الفريضة تنالون درجة التقوى والخشية من الله”[20].

3 – قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا[21].

شرع الله الزكاة وبين مقاصدها وحكمها، ففيها فوائد:

– للمزكي: تتمثل في تطهير وتزكية نفسه من رذائل الشح والبخل والطمع…

– أما الآخذ فتطهر نفسه من الحقد والحسد تجاه الأغنياء…

4 – قال تعالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ[22].  

والمنافع كما يقول مجاهد هي:” التجارة في الدنيا والأجر في الآخرة”[23]، وتنكير كلمة (منافع) كما يقول ابن عاشور:” للتعظيم المراد منه الكثرة وهي المصالح الدينية والدنيوية، لأن في مجمع الحجّ فوائد جمّة للناس: لأفرادهم من الثواب والمغفرة لكل حاج، ولمجتمعهم لأن في الاجتماع صلاحًا في الدنيا بالتعارف والتعامل”[24].

ويقول سيد قطب رحمه الله: “والمنافع التي يشهدها الحجيج كثير. فالحج موسم ومؤتمر. الحج موسم تجارة وموسم عبادة. والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسـيق وتعاون. وهو الفريضة التي تلتقي فيها الدنيا والآخرة كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة”[25].

5 – رخص العبادات معللة برعاية المصالح ورفع المشقة والحرج:

بعدما ذكر الله تعالى الغاية من فرض الصيام على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وترخيصه للمريض والمسافر الفطر، وقضاء ذلك بعد رمضان، ختم  الباري عز وجل الآية الكريمة ببيان بعض مظاهر رحمته بعباده، ورعايته لمصالحهم، قال سبحانه:﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ[26].

يقول محمد سيد طنطاوي:” بيان لحكمة الرخصة. أي: شرع لكم سبحانه الفطر في حالتي المرض والسفر، لأنه يريد بكم اليسر والسهولة. ولا يريد بكم العسر والمشقة”[27].

– ثانيا: السنة النبوية تعلل العبادات:

1- قَالَ صلى الله عليه وسلم: « إِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلاَ يَغْمِسْ يَدَهُ فِى الإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلاَثًا فَإِنَّهُ لاَ يَدْرِى أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ »[28].

فالمعنى الذي لأجله شرع غسل اليدين قبل غمسهما بالإناء معنى معقول هو الحفاظ على نظافة الماء وطهارته وصيانته من النجاسة والقذارة، وهو ما أشار إليه قوله صلى الله عليه وسلم فإنه لا يدري أين باتت يده.

يقول أبو عبد الله المقري:” فغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء معلل بالنظافة مما لا تخلو اليد عنه غالبا بسبب الجولان”[29].

2- عن سالم بن أبي الجَعْد قال:« قال رجل من خُزاعةَ: ليتني صلَّيتُ فاسترْحتُ، فكأنّهم عابوا ذلك عليه، فقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: أقم الصلاةَ يا بلالُ، أرِحْنا بها»[30].

وفي رواية عن عبد الله بن محمد بن الحنفية قال: «انطلقتُ أنا وأبي إِلى صِهْر لنا من الأنصار نَعُودُه، فحضرتِ الصلاةُ، فقال لبعض أهْلِهِ: يا جاريةُ، ائتُوني بوَضوء لَعَلِّي أُصلِّي فأستريح، قال: فأنكرنا ذلك، فقال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: قُمْ يا بلالُ، فأرِحْنَا بالصلاة»[31].

ففي هذا الحديث النبوي تعليل واضح للغاية من إقامة الصلاة باعتبارها راحة من أنكاد الحياة ومنغصاتها، يقول ابن الأثير:” وفيه [ أنه قال لبلال: أرِحْنا بها يا بلالُ ] أي أذِّن بالصلاة نَسْترحْ بأدائِها من شغْل القلب بها. وقيل كان اشْتغالُه بالصَّلاة راحةً له فإنه كان يَعّد غيرَها من الأعمال الدُّنيوية تعباً فكان يَسْتريح بالصلاة لِماَ فيها من مُناَجاة اللّهِ تعالى ولهذَا قال [ قرَّة عيني في الصلاة ] وما أقْرَب الرَّاحة من قُرَّة العَين. يقال: أراح الرجل واستراح إذا رَجَعت نفسُه إليه بعدَ الإعْياءِ”[32].

3 – وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:” أغنوهم عن الطواف في هذا اليوم”[33].

والمعنى المقصود منها إغناء الفقير عن السؤال يوم العيد، وهذا لا يحصل بالصدقة قبله بزمان طويل، ولا بالصدقة بعده، وإن كانت القربة فيها معقولة المعنى وهي سد خلة المحتاج فالمراد إغناؤه عن السؤال في يوم العيد تكميلًا لسروره فيه[34].

4 – عن ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما:”فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ، طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ؛ فَمَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ زَكَاةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنَ الصَّدَقَاتِ”[35].

فمقصود زكاة الفطر للمزكي تطهيره وتزكيته، ومقصدها لآخذ الزكاة سد خلته يوم العيد، يقول الشاطبي:” إن المقصود بمشروعيتها – الزكاة – رفع رذيلة الشح، ومصلحة إرفاق المساكين”[36].

5 وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” يقول الله عز وجل: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به، إنما يترك طعامه وشرابه من أجلي، فصيامه لي وأنا أجزي به، كل حسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مائة ضعف، إلا الصيام، فهو لي، وأنا أجزي به”[37].

ففي الحديث تعليل لما اختص الله بالصيام، وجعله له دون سائر العبادات، لكون الصوم عبادة لا يدخلها الرياء، لأنها عبادة سرية بين العبد وربه، لا يستطيع أحد الاطلاع عليها، يقول القاضي عياض:” تخصيصه الصوم هاهنا بقوله: “لي” وإن كانت أعمال البر المخلصة كلها له تعالى؛ لأجل أن الصوم لا يمكن فيه الرياء، كما يمكن في غيره من الأعمال؛ لأنه كف وإمساك، وحال الممسك شبعًا أو فاقة كحال الممسك تقرباً، وإنما القصد وما يبطنه القلب هو المؤثر في ذلك، والصلوات والحج والزكاة أعمال بدنية ظاهرة يمكن فيها الرياء والسمعة، فلذلك خص الصوم بما ذكره دونها”[38].

وقد ذهب غير واحد من العلماء إلى اعتبار الأصل هو التعليل والالتفات إلى المعاني – سواء في العبادات أو المعاملات – يقول ابن قدامة:” متى أمكن تعليل الحكم تعيَّن تعليله، وكان أولى من قهر التعبّد ومرارة التحكم”[39].

وهو يرى أن هذا منهج الصحابة في النظر إلى الشريعة يقول رحمه الله:« عُلم من الصحابة اتباع العلل واطراح التعبد مهما أمكن»[40].

وقال ابن دقيق العيد:« متى دار الحكم بين كونه تعبُّدا أو معقول المعنى؛ كان حمله على كونه معقول المعنى أولى»[41].

وقد صاغ المقري ذلك في قاعدة فقهية، فقال رحمه الله: «الأصل في الأحكام المعقولية لا التعبّد»[42].

فبعد هذا كله لا يستقيم القول: إن الأصل في العبادات هو عدم التعليل، بل الأصل في الشريعة كلها التعليل، والأصل في العبادات أيضا هو التعليل. وبعد هذا إن وجدنا جزئيات تعذر علينا تعليلها، أو صعب علينا الجزم بحكمة معينة ومقصد محدد لها، فهذا لا يضر، ولا يسمح لنا بقلب المسألة وإلغاء أصل التعليل واتخاذ عدم التعليل أصلا[43].

وبناء على التسليم بهذا الأصل – القول بالتعليل ومعقولية المعنى – علل الفقهاء كثير من المسائل الفقهية من ذلك:

1 – ذهب ابن دقيق العيد إلى أن غسل الإناء من ولغ الكلب سبع مرات معلل بالتنجيس، قال رحمه الله:” أن الأولى في غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات أن يكون معقول المعنى، حملاً على التنجيس، لأنه متى دار الحكم بين كونه تعبداً وبين كونه معقول المعنى كان حمله على كون معقول المعنى لندرة التعبد بالنسبة إلى الأحكام المعقولة المعنى”[44].

وذهب ابن رشد الحفيد نقلا عن جده إلى أن غسل الإناء من ولغ الكلب سبع مرات معقول المعنى ليس بسبب التنجيس، بل خوفا من أن يكون الكلب حاملا للسم، قال القاضي رحمه الله: “وقد ذهب جدي – رحمة الله عليه – في كتاب المقدمات إلى أن هذا الحديث معلل معقول المعنى ليس من سبب النجاسة. بل من سبب ما يتوقع أن يكون الكلب الذي ولغ في الإناء كلبا، فيخاف من ذلك السم”[45].

2 – اختار ابن القيم أن الكتابية عليها الإحداد لأجل حق الزوج والولد، ومنعا من اختلاط الأنساب، فهو معقول المعنى، قال رحمه الله:” ولا ريب أن الإحداد معقول المعنى، وهو أن إظهار الزينة والطيب والحلي مما يدعو المرأة إلى الرجال ويدعو الرجال إليها، فلا يؤمن أن تكذب في انقضاء عدتها استعجالا لذلك، فمنعت من دواعي ذلك وسدت إليه الذريعة”[46].

3 – ذهب أشهب إلى أن غسل اليدين ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء، معقول المعنى واحتج بحديث «إذا استيقظ أحدكم من نومه فليغسل يديه ثلاثا قبل أن يدخلهما في إنائه، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده»[47]، فتعليله بالشك دليل على أنه معقول[48].

ونفس الأمر نص عليه أبو عبد الله المقري قال رحمه الله:” فغسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء معلل بالنظافة مما لا تخلو اليد عنه غالبا بسبب الجولان”[49].

خاتمة:

  نخلص إلى أن التعليل ومعقولية المعنى هي الأصل، وإن بقيت بعض الجزئيات بدون معرفة الحكمة منها، ولم يظهر لنا مغزاها، فهذا لا يدل على أنها غير معللة، بل لم نصل بعد لمرادها، وهي تندج تحت الأصل العام في التعليل:” أن وضع الشرائع إنما هو لمصالح العباد في العاجل والآجل معا”[50]، و”أن قول بعض العلماء لحكم من الأحكام: هذا تعبدي غير معلل إنما بالنسبة إليه حين قال ما قال. والبحث والنظر لا ينبغي أن يتوقف، بل ينبغي أن يتقدم ويستمر…”[51] للوصول إلى الحكمة والمقصود.

لائحة المصادر والمراجع:

  1. ابن الأثير، مجد الدين 606هـ: النهاية في غريب الحديث والأثر، المكتبة العلمية – بيروت، 1399هـ – 1979م، تحقيق: طاهر أحمد الزاوى – محمود محمد الطناحي
  2. 2.          ابن دقيق العيد 702هـ: إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام، مطبعة السنة المحمدية، الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ
  3. 3.          ابن رشد، أبو الوليد الحفيد 595 ه: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، تحقيق: فريد عبد العزيز الجندي، دار الحديث، القاهرة، سنة الطبع: 1425ه – 2004م.
  4. ابن عبد السلام، عز الدين 660ه: الفوائد في اختصار المقاصد، المحقق: إياد خالد الطباع، دار الفكر المعاصر، دار الفكر – دمشق، الطبعة: الأولى 1416 ه
  5. ابن عبد السلام عز الدين 660ه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، دار ابن حزم، الطبعة الأولى 2003م
  6.  ابن عرفة، محمد بن أحمد الدسوقي المالكي 1230هـ حاشية الدسوقي على الشرح الكبير، دار الفكر، الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ
  7. 7.          ابن قدامة المقدسي 620هـ: روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل، مؤسسة الريّان للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1423هـ-2002م
  8. 8.          ابن قدامة المقدسي، أبو محمد موفق الدين 620هـ: المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل، مكتبة القاهرة، الطبعة: بدون طبعة، تاريخ النشر: 1388هـ – 1968م
  9. 9.          ابن قيم الجوزية 751هـ: مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة، دار الكتب العلمية – بيروت
  10. 10.      ابن قيم الجوزية أبو عبد الله 751 هـ : إعلام الموقعين عن رب العالمين، قدم له وعلق عليه وخرج أحاديثه وآثاره: أبو عبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، دار ابن الجوزي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية،  الطبعة: الأولى، 1423هـ
  11. 11.      ابن قيم الجوزية، شمس الدين 751هـ زاد المعاد في هدي خير العباد: شمس الدين ابن قيم الجوزية 751هـ، مؤسسة الرسالة، بيروت – مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، الطبعة: السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م
  12. 12.      أبو العز الحنفي، صدر الدين 792 ه التنبيه على مشكلات الهداية، تحقيق ودراسة: عبد الحكيم بن محمد شاكر (جـ 1، 2، 3) – أنور صالح أبو زيد (جـ 4، 5) أصل الكتاب: رسالة ماجستير- الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، مكتبة الرشد ناشرون – المملكة العربية السعودية، الطبعة: الأولى، 1424 هـ – 2003 م
  13. 13.      أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السِّجِسْتاني 275هـ: سنن أبي داود، تحقيق: شعَيب الأرنؤوط – محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430 هـ – 2009 م
  14. 14.      أحمد بن حنبل، أبو عبد الله الشيباني 241ه: مسند الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق: أحمد محمد شاكر، دار الحديث – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1416 هـ – 1995م
  15. 15.      البخاري محمد بن إسماعيل أبو عبد الله 256 ه: صحيح البخاري، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ
  16. 16.      البيهقي، أبو بكر 458هـ: السنن الكبرى، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية، بيروت – لبنات، الطبعة: الثالثة، 1424 هـ – 2003 م
  17. التفتازاني سعد الدين مسعود بن عمر 793هـ: شرح التلويح على التوضيح، مكتبة صبيح بمصر، الطبعة: بدون طبعة وبدون تاريخ.
  18.  الحطاب، شمس الدين أبو عبد الله المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي 954هـ: مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، دار الفكر، الطبعة: الثالثة، 1412هـ – 1992م
  19. 19.      الريسوني أحمد: الفكر المقاصدي قواعده وفوائده، منشورات الزمن، العدد: 9، دجنبر 1999
  20. 20.      الشاطبي أبو إسحاق 790هـ: الموافقات، مع شرح تعليقات الشيخ عبد الله دراز، المكتبة التوفيقية، الطبعة الأولى 2003م
  21. 21.       شلبي محمد مصطفى: تعليل الأحكام (عرض وتحليل لطريقة التعليل وتطوراتها في عصور الاجتهاد والتقليد)، دار النهضة العربية، بيروت، 1401 هـ
  22. الطاهر بن عاشور 1393هـ: التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر – تونس، سنة النشر: 1984 هـ
  23. 23.      الطاهر بن عاشور 1973م: مقاصد الشريعة الإسلامية، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى 1426 ه –  2005م
  24. 24.      الطبري أبو جعفر 310هـ: جامع البيان في تأويل القرآن، المحقق: أحمد محمد شاكر، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1420 هـ – 2000 م
  25. 25.      طنطاوي محمد سيد 1431ه: التفسير الوسيط للقرآن الكريم، دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، الفجالة – القاهرة، الطبعة: الأولى، تاريخ النشر: 1997 – 1998
  26. 26.      عياض، أبو الفضل القاضي عياض اليحصبي السبتي، 544هـ: إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم، تحقيق: الدكتور يحْيَى إِسْمَاعِيل، دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة: الأولى، 1419 هـ – 1998م
  27. الغزالي أبو حامد 505 هـ: شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل، المحقق: د. حمد الكبيسي، مطبعة الإرشاد – بغداد، الطبعة: الأولى، 1390 هـ – 1971 م.
  28.  قطب سيد: في ظلال القرآن ، دار الشروق، الطبعة الثانية والثلاثون: 1432ه – 2003م.
  29. مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري، النيسابوري 261هـ: صحيح مسلم، المحقق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي- بيروت.
  30. المقري أبو عبد الله 758 ه: القواعد، تحقيق ودراسة أحمد بن عبد الله حميد، أصل هذا الكتاب رسالة علمية.

[1]  – إعلام الموقعين عن رب العالمين: ابن قيم الجوزية: 2/295

[2]  – تعليل الأحكام: مصطفى شلبي: ص: 13

[3]  – الموافقات: 2/295

[4]  – شفاء الغليل: ص: 204

[5]  – شرح التلويح على التوضيح:2/210

[6]  – قواعد الأحكام في مصالح الأنام لعز الدين بن عبد السلام: ص: 24 – 25

[7]  – الموافقات: 2/4

[8]  – الموافقات: 2/327

[9]  – الفوائد في اختصار المقاصد: ص: 133

[10]  – الموافقات: 2/256

[11]  –  القواعد: لأبي عبد الله المقري: 1/298

[12]  –  مفتاح دار السعادة: 2/22

[13]  –  مقاصد الشريعة الإسلامية: ص: 12

[14]  – مواهب الجليل في شرح مختصر خليل: شمس الدين أبو عبد الله المعروف بالحطاب الرُّعيني المالكي: 1/177

[15]  – العنكبوت: 45

[16]  – التحرير والتنوير: 20/258

[17]  – طه: 14

[18]  – التحرير والتنوير: 16/201

[19]  – البقرة: 183

[20]  – التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 1/381

[21]  – التوبة: 103

[22]  – الحج: 27 – 28

[23]  – جامع البيان في تأويل القرآن: أبو جعفر الطبري: 4/166

[24]  – التحرير والتنوير: 17/246

[25]  – في ظلال القرآن: ص: 2418

[26]  – البقرة: 185

[27]  – التفسير الوسيط للقرآن الكريم: 1/388

[28]  –  صحيح مسلم: كتاب الطهارة: باب كراهة غمس المتوضئ وغيره يده المشكوك في نجاستها في الإناء قبل غسلها ثلاثا.

[29]  –  القواعد: لأبي عبد الله المقري: 1/296

[30]  –  سنن أبي داود: أول كتاب الأدب: باب في صلاة العتمة.

[31]  –  سنن أبي داود: أول كتاب الأدب: باب في صلاة العتمة.

[32]  –  النهاية في غريب الأثر: 2/658

[33]  –  السنن الكبرى للبيهقي:كتاب الزكاة: باب وقت إخراج زكاة الفطر، ولفظه:” أغنوهم عَن طَوَافِ هَذَا الْيَوْمِ”.

[34]  –  التنبيه على مشكلات الهداية: لابن أبي العز الحنفي: 2/889

[35]  – سنن أبي داود: كتاب الزكاة: باب زكاة الفطر.

[36]  – الموافقات: 2/327

[37]  – مسند الإمام أحمد بن حنبل: مسند المكثرين من الصحابة: مسند أبي هريرة رضي الله عنه: رقم الحديث: 7494

[38]  – إِكمَالُ المُعْلِمِ بفَوَائِدِ مُسْلِم: 4/110

[39]  – المغني في فقه الإمام أحمد بن حنبل:1/754

[40]  – روضة الناظر وجنة المناظر ص:305

[41]  – إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: 1/23

[42]  –  القواعد: 1/296

[43]  – الفكر المقاصدي قواعده وفوائده: أحمد الريسوني: ص: 49 – 50

[44]  – إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام: 1/23

[45]  – بداية المجتهد ونهاية المقتصد: أبو الوليد ابن رشد الحفيد: 1/37

[46]  – زاد المعاد في هدي خير العباد: 5/622

[47]  – صحيح البخاري: كتاب الوضوء: باب الاستجمار وترا

[48]  – حاشية الدسوقي على الشرح الكبير: محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المالكي: 1/96

[49]  –  القواعد: 1/296

[50]  – الموافقات: 2/4

[51]  – الفكر المقاصدي قواعده وفوائده: أحمد الريسوني: ص: 54

Leave A Reply

Your email address will not be published.