تقرير حول أطروحة في موضوع: تعارض مقتضى دلالات الألفاظ عند الأصوليين، نماذج مختارة
تمت مناقشة هذه الأطروحة في رحاب كلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس، جامعة سيدي محمد بن عبد الله – فاس، بتارخ 28 فبراير 2018، ونال صاحبها تقديرا بميزة مشرف جدا. وقد تكونت لجنة المناقشة من السادة الأساتذة: د. عبد الله غازيوي، ود. عمر جدية، ود. عبد الله معصر، ود. عبد العزيز اليعكوبي، ود. ابا سيدي أمراني علوي.
مدخل:
من أعظم ما يقع فيه تعارض الأدلة الشرعية؛ دلالة ألفاظها، فهي مناط الاستنباط الدقيق للحكم الشرعي، والتعارض في دلالاتها موجود لسعة اللغة وشمولها. وذلك ما أعطى للموضوع قيمته. يحتاجه الأصولي للترجيح عند التعارض بين الحقيقة والمجاز، وبين الخاص والعام، وبين الإفراد والاشتراك، وبين التقييد والإطلاق، وبين التأخير والتقديم، والتأسيس والتأكيد وبين منطوق الكلام ومفهومه وغيرها لقصور العقل البشري وقلة علمه واطلاعه ﴿وما أوتيتم من العلم إلا قليلا﴾.
تتجلى الأهمية الكبرى لهذا البحث – في نظري – في كونه يبحث في تعارض دلالات الألفاظ، ذلك أن دلالات الألفاظ من أهم مباحث علم أصول الفقه وأجلِّها، لأنها اللغة التي جاء بها القرآن والسنة؛ ففِقْههما طريق فهمهما، كما أن هذه الألفاظ هي مناط الاستنباط الدقيق للحكم الشرعي، بل إن إدراك الأحكام من الأدلة – وهو المقصود الأعظم منها – يكون بمعرفة ألفاظ الأدلة ودلالاتها كما يقول الشاطبي: «الاعتناء بالمعاني المبثوثة في الخطاب هو المقصود الأعظم».
وكثير من أسباب اختلاف العلماء في الأحكام مردُّها إلى اختلافهم في دلالات الألفاظ التي وصفها ابن تيمية رحمه الله بقوله: «وهذا باب واسع جداً لا يحيط به إلا الله».
وإذا كانت دلالة الألفاظ بهذه المثابة، والتعارض بهذه المثابة أيضاً، فإن المركَّب منهما – وهو تعارض دلالات الألفاظ – تتولد منه أهمية علمية عظيمة.
الجديد في هذا البحث:
تبرز أهم الأعمال التي أنجزتها في هذا البحث على الشكل الآتي:
أولا– جمع الصور التي يوجد فيها تعارض في دلالات الألفاظ عند الأصوليين وغيرهم وحصرها.
ثانيا – تقسيم هذه الصور إلى أبواب وفصول ومباحث تقسيماً علمياً يتناسب وطبيعة هذه الصور العلمية من حيث لم شتاتها ووحدة موضوعها.
ثالثا – دراسة كل صورة منها بإيضاح صورة التعارض والخلاف فيها عند أهل العلم مع الاستدلال والترجيح.
رابعا – ذكر بعض الأمثلة التطبيقية لكل صورة.
وقد اعتمدت في دراسة المسألة الواحدة منهجا يقوم على الخطوات الآتية:
1 – اختيار عنوان للمسألة.
2 – تصوير المسألة وإيضاحها وبيان المراد منها وذكر مثال لها دون دفع التعارض فيه.
3 – تحرير محل النزاع فيه إن وجد ببيان المتفق عليه من صوره وتوثيقه، ومن ثمَّ تحديد المتنازع فيه.
4 – ذكر الخلاف في المختلف فيه باستقصاء الأقوال، ونسبة كل قول وأدلته حسب المنهج الآتي:
أ – أبدأ غالبا بالقول الراجح عندي الذي ثبت رجحانه من خلال دراسة المسألة، أو أشير إلى الأصوب في نظري
ب – أعقبه بالأقوال الأخرى.
جـ – إذا كانت المسألة مشهورة قد كثر إيرادها أوردها بنسبتها إلى المذاهب، أما إن كانت مسألة مغمورة لم يذكرها إلا القليل من الأصوليين – وهو في البحث كثير – فأنسبها إلى الذاكرين لها.
د – أقرن بكل قول أدلته التي استدل بها قائلوه.
هـ – أحرص على ذكر وجه الدلالة من كل دليل إذا كان نصاً من الكتاب أو السنة.
5 – أذكر الراجح في المسألة.
6 – أورد المناقشة لأدلة القول المرجوح.
7 – أدفع التعارض من خلال دراسة المسألة عن المثال الذي صدَّرت به المسألة.
8– أذكر أمثلة أخرى لأدلة متعارضة في صورة المسألة – بقدر الاستطاعة – مع النقل عن المفسرين في الآيات والمحدثين في الأحاديث في كيفية دفعهم لتعارضها، وتطبيق ما درس في المسألة الأصولية على أقوال الفقهاء في المسألة الممثل بها.
خطة البحث:
يتضمّن البحث مقدمة تناولت توضيحا لعنوان الأطروحة وخمسة أبواب وخاتمة:
الباب الأول: تعارض مقتضى دلالات الألفاظ باعتبار القيد وعدمه، تطرقت فيه لتعريف للمطلق والمقيد، وأوجه التعارض بينها
الفصل الأول: أحوال الألفاظ باعتبار حصول الخلل في فهمها وحصر صور التعارض بينها ووجه الحصــر. أثرت فيه التعريف بأحوال الألفاظ وأوجه التعارض بينها
الباب الثالث: تعارض مقتضى دلالة الألفاظ باعتبار طرق دلالتها على الأحكام، شمل وجهة نظر الجمهور والأحناف، ونظرتهم لطرق دلالة الألفاظ عل الأحكام، وأوجه التعارض بينها.
الباب الرابع: التعارض بين الألفاظ باعتبار وضوح الدلالة وعدمه، مثل سابقه رأي الجمهور والحنفية لوضوح الدلالة وعدمه، وأوجه التعارض بينها
الباب الخامس: التعارض بين الألفاظ باعتبار الاستعمال تناولت فيه تعريف الحقيقة والمجاز وأوجه التعارض بينها
وهذا لا يلغي حدة الاختلاف في غيرها، كتعارض مقتضى دلالة الألفاظ على المعاني كتعارض دلالة الألفاظ باعتبار دلالة اللفظ على المسـمى. وتعارض دلالة الألفاظ باعتبار تعدد المعنى وعدمــــــــــه. وتعارض دلالة الألفاظ باعتبار أثر اللفظ على المعنى. والتعارض بين الألفاظ باعتبار الاستغراق والحصــر كالتعارض بين العامــين وتعارض بين الخاصين والتعارض بين العام والخاص. وقد جمعتها في بحث سأنشره لاحقا بإذن الله تعالى. ذلك أن صور التعارض تكاد تشمل كل أبواب الفقه، فحصرها ضرب من الوهم.
لهذه الأسباب وتفاديا للإطالة وتوخيا لمزيد الإفادة اقتصرت على الأبواب الخمسة في هذا البحث.
وإني لا أزعم أني كتبت أو أكتب في هذا الموضوع وحدي، فقد سبقني إليه جلة من العلماء الأفذاذ في مختلف المذاهب ممن تناولوا الموضوع وكتبوا فيه، أو أشاروا في ثنايا كتبهم إلى قضية الترجيح بين دلالات مقتضيات الألفاظ، أو أبانوا في طيات مؤلفاتهم عن نباهتهم وقدراتهم العالية في فهم الأدلة، واقتباس الأحكام من منطوق الألفاظ ومفهومها، وتخصيص ما ينبغي تخصيصه، وتعميم ما ينبغي تعميمه، وإطلاق ما يقتضي المقام إطلاقه، وتقييد ما يتعين تقييده، وبرعوا في الترجيح عند التعارض. فقدموا بذلك خدمة للدين قل نظيرها. فجازاهم الله عنا خير الجزاء.
الصعوبات التي واجهتني في إنجاز البحث:
1_ صعوبة العثور على بعض المراجع.
2_ كثرة من ألف في الموضوع مما جعل عملية الانتقاء والتمحيص أمرا في غاية الصعوبة
3_ غناء الموضوع تطلب مني بحثا وتصنيفا وتمحيصا للأقوال والمضامين.
4_ ضبط الأحاديث باجتناب الضعيف وتقصي الصحيح
5_ عزو الأقوال لأصحابها وذلك لكثرت المراجع والمصادر التي تضمنها البحث
مع كل هذه الصعوبات يجد الباحث لذة في التنقيب والبحث وسعادة عندما يتوصل للمراد.
أهم خلاصات ونتائج البحث وآفاقه:
أولا: نتائج البحث وثمراته
بعد أن جلت في رياض تعارض دلالات الألفاظ، واستنشقت ربيع أزهاره، فجهدت أن أنتخب من كل نوع أطايبه ترجيحاً، غصت في بحره اليم ومحيطه الجم، فاكتنزت من ياقوته درراً، ونهلت من معينه عذباً سلسبيلاً. بعد هذا كله أقف متأملاً لأخرج بهذه النتائج والثمرات.
1 – أن علم تعارض دلالات الألفاظ علم له أهمية عظيمة للمجتهد الناظر في الأدلة الشرعية.
2 – أن علم التعارض والترجيح من أعظم ما يربي في طالب العلم المَلَكَة الفقهية والدُّرْبَة على النظر والاستدلال وممارسة الاستنباط من الأدلة ليخرج بذلك من الجمود والتقليد إلى النظر والاجتهاد.
3 – أن أهل المذاهب الأصولية المعتبرة – الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة – يتباينون كثيرا في عرض أحكام التعارض والترجيح، وذكر صور التعارض وطرق دفعها. وهذا التباين إنما هو باعتبار الاختصاص والإسهاب.
4 – أن المؤلفين في المذاهب يتباينون أيضاً من حيث اهتمامهم بعرض مسائل التعارض والترجيح.
فبعضهم يعرض للباب بذكر قواعد الترجيح، ثم يذكر بعض صور التعارض، كالغزالي في «المستصفى»، وابن قدامة في «روضة الناظر».
وبعضهم يجد في الاستيفاء والتقصي بقدر إمكانه، حتى أضحت مسائل التعارض والترجيح تأخذ حيزاً كبيراً من كتابه، كالآمدي في «الإحكام في أصول الأحكام» والصفي الهندي في «نهاية الوصول»، والمرداوي في «مختصر التحرير»، وشرحه «التحبير»، وابن النجار في «شرح الكوكب المنير».
5 – أن المرجحات متعددة غير محصورة، غير أنها ترجع في أصولها إلى غَلَبَة الظن، فكلما غلب على الظن قوة دليل على آخر قدم عليه.
وغَلَبَة الظن هذه تدرك بمعرفة أحكام كل الأدلة لمعرفة وجوه القوة فيها والتي بها تقدم، ومعرفة وجوه الضعف التي بها تؤخَّر، وذلك في سندها ومتنها.
6 – أن مرجحات الدلالات اللفظية كثيرة ومتعددة بحسب تعدد أنواع هذه الدلالات، غير أنه يمكن حصرها بقواعد عامة للترجيح تنتظم تحت لوائها.
7 – أن كتب أصول الفقه وبشكل عام تعاني من شح المثال لتعارض الدلالات اللفظية، بل إن القليل منها من يصحبه مثاله.
8 – أن التعارض تقابل الدليلين الواردين في مسألة واحدة ينتج عنه منع كل واحد منهما لنفوذ الآخر وإمضائه، سواءً سمي التعارض أم التعادل.
9 – أن الأدلة الشرعية لا يمكن أن تتعارض في حقيقتها، وإنما يقع الاجتهاد في نظر المجتهدين لأسباب تعرض لهم، كقصور فهم المجتهد، ولخفاء المرجح، أو لعدم مقدرة المجتهد في الجمع بين الدليلين.
10 – أن الدليل القطعي يعارض الدليل القطعي والظني، ولا يعارض الظني القطعي.
11 – أن الدليلين لا يتعارضان إلا أن يؤدي الاحتجاج بواحد منها إلى نقيض مقتضى الآخر أو يكونا متساويين من حيث قوة الثبوت وقوة الدلالة والعدد، أو يكون تقابلهما في محل واحد ووقت واحد.
12 – أن الدلالة الوضعية اللفظية هي الدلالة المقصودة عند الأصوليين، إذ هي وسيلة فهم المراد من الخطاب.
13 – أن طرق دلالة اللفظ على الأحكام الشرعية تتنوع إلى أنواع كثيرة.
14 – أن الترجيح بين الدليلين تقوية لأحدهما على الآخر باعتبار ما يقترن به من المرجحات سواءً في نفسه أو من خارجه.
15 – أن عمل المجتهد الناظر في الأدلة المتعارضة هو إظهار قوة في أحد المتعارضين ليعمل به ويطرح الآخر.
16 – أن الترجيح واجب بين الأدلة.
17 – أن المتعيِّن أولا عند تعارض الدليلين البحث عن إمكانية الجمع بينهما، لأن فيه إعمال لهما جميعاً. فإن لم يمكن ذلك، فالترجيح بينهما.
ثانيا: النتائج والثمرات العامة للبحث
1 – ظهر لي من خلال البحث المنهج الذي اتخذته فيه أن كثيراً من كتب العلم الشرعي مليئة بالقواعد والفوائد الأصولية، وخصوصاً تفاسير القرآن الكريم، وشروح السنة النبوية المطهرة.
والأصوليون بحاجة إلى هذه القواعد والفوائد الأصولية، لأنها صادرة من علماء السلف الذين، وإن كان لكل واحد منها عناية خاصة بفن معين، غير أن الشمولية ديدنهم والإحاطة منهجهم.
مع ما في هذه المواضع من فوائد جمة من ربطها بأصولها من الكتاب الكريم والسنة النبوية المطهرة استدلالاً وتمثيلاً.
وكتب التفسير وشروح السنة، وإن كانت متفاوتة في الاهتمام بالتأصيل وذكر مسائله ودراستها، إلا أن كثيراً منها فيه غزارة علمية أصولية لا يحسن أن تدرس المسائل الأصولية بمعزل عما في هذه الكتب من القواعد والفوائد لِمَا تمثِّلُه من ثورة علمية الاهتمام بها قليل.
والذي أراه بهذا الخصوص أن تقوم الأقسام العلمية الأصولية بجرد هذه الكتب واستخراج دررها ودراستها، سواءً عن طريق البحوث الأكاديمية والرسائل العلمية، أو البحوث الطلابية، أو غيرها مما تراه الأقسام العلمية وفق خطة توضع لهذا الغرض.
2 – مع كثرة الساعات الدراسية لعلم أصول الفقه في كليات الشريعة بالجامعات، إلا أن الذي يظهر أن هذه السعات لم تؤد الدور العلمي الذي من أجله وضعت، وهو التربية العلمية الأصولية للطالب.
إنه ومن خلال النظرة المتأنية أدرك أننا بحاجة شديدة لدراسة المنهج، وطريقة التدريس ليكون ذا أثر فاعل على طلاب العلم.
فالانطلاق بالطالب إلى أمثلة حية مثمرة، واستبعاد ما لا ثمرة له من المسائل، وإشغاله بالمفيد منها، وتربيته على الدراسة، وتنمية المَلَكَة الفقهية، واقتطاع جزء من ساعات مادة أصول الفقه التي تعرض منها مسائله إلى استغلال بعض هذه الساعات بالنواحي التطبيقية في تخريج الفروع على الأصول، والفروق، والضوابط الفقهية، وتاريخ التشريع، وأدب الخلاف، وعلم المقاصد كل هذا أصبح – في نظري – أمرا مهما لابد من دراسته والعمل به.
3 – أن علم البلاغة من أهم علوم الآلة لطالب علم الشريعة لفهم نصوص الكتاب والسنة. ومع ذلك لا يوجد له ساعات مقررة في الخطط الدراسية في كليات الشريعة في الجامعة.
وفي نظري إن من الأهمية الاغتناء بهذا العلم ووضعه بين طلاب العلم لحاجتهم إليه، وأن توضع مناهجه للاستفادة من الكتاب والسنة وحدهما.
4 – مما أراه أيضاً أن تجد أقسام أصول الفقه بالكليات الشرعية في البحوث التطبيقية، فلقد أشبعت المسائل النظرية بحثاً ودراسة وتبقى الفائدة منها بإنزال هذه القواعد الأصولية إلى واقع وميدان فهم الكتاب والسنة ببحوث تطبيقية على القرآن الكريم وكتب السنة النبوية المطهرة.
5 – ويتأكد يوماً بعد يوم ضرورة تسهيل علم أصول الفقه بأسلوب علمي مناسب للعصر، يقرب بين يدي طلبة العلم، ينطلق منه المتخصصون، ويكتفي به غيرهم، يعتمد فيه على الوحيين بأمثلتهما، وتدرس نوازل العصر من خلاله، والعمل الجماعي في هذا والمنطلق من الجامعات بأقسامها العلمية سيكون – بإذن الله – أنضج فكراً وأثمر عملاً، وأسرع قبولاً.
وفي الأخير أُجدّد شكري لأستاذي المشرف ولأساتذتي الكرام، وعذراً إن كان الجُهدُ مُخِلاًّ من مُقِلّ، وحسبي أنّني حاولت وُسعي في الاجتهاد، فإن وفِّقْتُ فمِن الله، وإن كانت الأخرى فذلك من نفسي ومن الشيطان. والله أسأل أن يضع لهذا البحث القَبول، ويجعله في ميزان حسناتي، فهو حسبي ونعم الوكيل.
والحمد لله رب العالمين.